اهم الاخبارمقالات مختارة

سـيف الأقــدار ؟

 د. محمد محمد المـفــتي

لم ألتقِ سيف إبن معمر القذافي مطلقا وإلى هذه اللحظـة. لكنني عرفت أبيه، في العامين الأولين من ثورة 1969. ففي رمضان من ذلك العام تعرض سـائق وزير الداخلية المرحوم المـقـدم موسى أحمد لحادث سير قرب شحات. ونقل الرجل إلى مستشفى الثورة بالبيضاء. وإذ كنت الطبيب الوحيد بالجبل الأخضر ومدير المستشفى وكنت أقيم بالبيضاء، فقد جئت. وقبل أن أخرج من غرفة العمليات وصل موسى أحمد وبرفقته ضباط آخرون، أحـدهم المرحوم عمر الواحدي، إلى المسـتشـفى. 

في الشهور التالية كان معمر القــذافي يجول في أرجـاء البــلاد ويزور شتى المناطق، ليمر على المعسكرات، وليلتقي الناس ويلقي الخطب. وكان لتلك الزيارات دور في تعميق الرابطة بينه وبين الناس، وترسيخ مكانته كقائد للنظام الجديد. وفي البيضاء، ولأكثر من مرة كان يطلب لقاء بعض المثقفين للمناقشة، عادة في المساء. وكان القذافي ينصت، وربما علق بكلمة واحدة. “زين .. زين”. وفي أوائل ديسمبر عام 1969 بدأ القذافي تصفياته لمن شاركوه في السلطة باعتقال كثير من الضباط الذين أوصلوه إلى سـدة السلطة، في ما عرف “بقضية موسى أحمد”. وكان أن أثرتُ الموضوع مناشدا معمر ألا يسمح بتلطيخ تاريخ ثورة سبتمبر. وانفعل القذافي على غير عادته وقال: ” بالك تحساب هما اللي داروا الثورة. لالا. لعلمك ضباط الصف هما اللي أنجزوا الثورة”. ولم أكن أحسب أنني أنا نفسي سوف أعتقل في أبريل 1973 ضمن حملة القذافي على المثقفين ، لأقضي 11 سنة في السجن.

في 22 يناير 1984 أفرج عني. والحقيقة أن كثيرين طالبوا بالإفراج عني، منهم أطباء زملاء إنجليز في بريطانيا، ومنظمة العفو الدولية التي اختارتني سجين رأي لعام 1978. لكن الكاتب عبد المطلب الهوني، في كتابه “ســيف القـذافي: مكر السياسة وسـخرية الأقـدار” الصادر في فبراير 2015، أضاف جانبا آخر وهو دور المرحومة والدتي الحاجة فتحية في مناشدة القذافي لإطلاق سراحي. ويكتب الهوني (ص 88) أن تلك كانت أول مرة يسمع فيها سيف بوجـود سجناء سياسيين. فذات يوم عندما كان طفلا يلعب الكرة مع آخرين في معسكرباب العزيزية، ناداه حارس البوابة حيث كانت تقف سيدة عجـوز .. وجاء سيف فقالت له أن إبنها مـسجـون، ومدت إليه رسالة ليحملها إلى والده .. ’’وســلـّم سيف رسالة العجـوز إلى أبيه، الذي قال ضاحكا: قــُـبـلت وساطتك ‘‘. وأمر بالافـراج عن إبن الـعـجـوز، وهـو كاتب هذه السطور. 

وفي ما بعد كانت الغارة الجوية الأميركية ( 15 أ بريل 1986 )، ويقال أن تلك الغارة أقنعت القذافي بانتهاج سياسة تصالحية والسعي لتحسين صورة نظامه، وفعلا في مارس 1988، خـرج القـذافي فجـأة في مشــهـد مـسـرحي على ظـهـر كاشــيك ليـهـدم بوابة سجن بوسـلـيم، مـرددًا النشيد السوداني: ’’أصـبح الصبـح، فلا السـجن ولا السـجـان باقٍ ..‘‘، كما لـو أنـه لم يكن المسـئول الأول عن الاعـتـقــالات. 

الآن وفي زحمة الفوضى المرعبة التي نعيشـهـا يتنامى الحنين إلى العهد الملكي وإلى حقبة القذافي، ويتداول العامة صورة محسنة وردية عن النظامين. ولا يلام الناس على ذلك رغم أنـها صـور غير صحيحة. فالقـذافي مع تعاظم سيطرته وانفراده بالقرار، تمادي في استعمال العنف وشتى أنواع التنكيل. صحيح أنها لا تـقـارن عدديا بما نعيشـه اليـوم من صراعات دمـويـة وانهيار اقتصادي، لكنها في وقـتـهـا كانت مرعبة وشرسـة بـقـدر ما كانت رعـناء. وكذلك كانت سياساتـه الاقتصـادية (1979) كـتغيير العملة، وتأميم التجـارة، والقانون رقم 4 لحـظـر المِلكية العـقـــارية، وكلها لم تحـقق غاية اقتصادية، ولكنها سببت معاناة واسـعة، ولهـذا كلـه نـهـض الشعب الليبي ضـده في فبراير 2011. 

الأكـيـد أن القـذافي أسـاء قـراءة الأمـور سـواء موقف الليبيين الذين بدوا مستكينين وأظـهـر بعضهم التملق والنفاق، وهي ســلوكيات شـائعة في ظل الخـوف في كل زمان ومجتمع. وأساء القذافي فـهـم موقف الدول الكبــرى من سـياسـاته المـتـقـلبـة، ومخاطر مغـامراتـه كما في قضية لوكربي، وأسـلحـة الدمـار الشامل. وهكذا بقدر ما تعاظم سلطانه وتزايدت مهرجاناته كأي حـاكم مســتـبد كلما مهـد لنـهـايـتـه نتيجة كل ذلك. 

وأخـيـــرا … لا شـك أن التـاريخ تـخـطـه الصـدف والأقــدار، بـقـدر ما تحـكـمه المصالح والصراعات والآيدولوجيات. فـسيف طرح برنامج ليبيا الغد الإصلاحي، لكنه لم يقوى على مداومة الإبحار نتيجة ما اعترضه من عواصف .. كتنافس الأخوة واعتراض الحرس القديم. وحين سطر في ذروة أزمـة فبراير 2011، خطابا تصالحيا ليلقيه على التلفزيون، رفضه والده قائلا ” هذا وقت المواقف الرجولية” فخرج سيف على الليبيين منذرا محذرا. واختفى سيف بالجنوب وقيل اعتقل، وربما كان قـتـل لولا الأقـدار، وانتهى الأمر به في الزنتــان، ومهما كانت الملابسات نجي من المهانة والتنكيل بل والموت. 

والآن يقال أنه أفرج عنه، وأنه في حماية أخواله من قبيلة البراعصة بالجبل الأخضر. ربما. والأمر ممكن. بل يبدو أن الأقدار جـعـلته ضروريا. فمخاض السنوات الماضية، وحاجة الليبيين للاستقرار والأمان، جعلت أنصار نظام القذافي ومؤيديه بين عامة الناس يتعاظم عـددهم، ويعلو صوتهم. والأمر كذلك بالنسبة لمحمد الحسن الرضا الطامح لاستعادة عرش ليبيا. الأمور أكثر تعقيدا، فتوازن القوى المتطلعة لدور في الدولة وانتشار السلاح لن تسمح بذلك. ثـمـة قـوى أخرى لـهـا من الحضور على الأرض، ولابد من إشـراكـها في المعادلة السياسـية. ولابـد من تجـاوز الأحـقــاد والثــارات الحالية لكي يصبح ذلك ممكنا.

خبر إطلاق سراح سـيف قوبل أيضا بجدل لا متناهي حول جوانبه القانـونية، كما لو أن ما تبقى من الدولة الليـبــية يتسق مع القوانين أصــلا. المنـطــق يـقـول أن سيف الآن شخصية اعتبارية، شـاءت الأقــدار أن ترسم له دورا سياسيا إيجابيا. ومن حقه أن يلعب هذا الدور، ولو فقط لأنـه يحظى بتـأييـد قـطــاع من الرأي العام، وبعض الكيانات الاجتماعية والمسلحـة. 

الحـوار الحـقـيقي يجب أن يكون حول ما إذا كان قادرا على المساعدة على تـهـدئة النفـوس وتجــاوز الأحـقــاد؟ وحـول قـدرته على تعزيز الاستقرار والأمن والازدهار الاقتصادي؟ وأخيرا حول مكانـه على المنصـة السياسية؟ 

د. محمد محمد المـفــتي

بنـغـازي، 14 يـونيو 2017

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى