مقالات مختارة

رئيس تونس الجديد وأسرار الفوز الساحق

د. آمال موسى

تستحق التجربة الانتخابية الأخيرة في تونس التوقف عندها، لا صحافياً فقط، بل وحتى علمياً، لتكون موضوع بحوث معمقة تدرس الحالة التونسية، وتحاول فهمها، وتفسيرها، واستخلاص الدروس والرسائل منها.

سننطلق من سؤال بسيط ومباشر: لماذا فاز الأستاذ قيس سعيد بهذه النتيجة القوية؟

في البداية، وقبل محاولة الإجابة السريعة عن هذا السؤال، هناك نقطتان تستحقان الإشارة إليهما. النقطة الأولى أن قراءة هذه الانتخابات بمعزل عن ملابسات انطلاق الثورة التونسية في 14 يناير (كانون الثاني) 2011 قراءة لا تستقيم، ولن تمكننا من تفسير الفوز، ولا من فهم ماذا يعني أن يصوت ثلاثة ملايين تونسي للمترشح قيس سعيد، وماذا يعني أن يكون أكثر من 90 في المائة من نسبة الناخبين شباباً؟ أيضاً كيف نفسر ارتفاع نسبة المشاركة الانتخابية في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية خلافاً للانتخابات التشريعية والدور الأول من الانتخابات؟

أولاً تقول النسب الأولى إن السيد قيس سعيد فاز بنسبة نحو 74 في المائة، وهي نسبة عالية جداً، وتصبح مدهشة عندما نضع في الاعتبار أنها نتيجة انتخابات شفافة، كانت فيها الكلمة الأولى والأخير لصناديق الاقتراع. وتضيف النسب الأولى أن السيد سعيد كان خيار الشباب، تحديداً الفئة العمرية من 18 إلى 25 عاماً، وهو الشباب الجامعي والمتعلم في غالبيه.
لنتذكر جيداً أن الثورة في تونس قام بها الشباب، وأن مشكلات الشباب التي عجزت الدولة عن معالجتها مثل العمل وغيره قد وضعت النظام ما قبل الثورة في زنقة حادة انتهت به إلى الانهيار. ولكن ها هي الثورة التي أكلت أبناءها، كما يقال بعد انتخابات المجلس التأسيسي، وبعد الانتخابات التي انعقدت عام 2014، تتدارك أمرها، وتتصالح مع أبنائها الذين غيروا الواقع السياسي، وعاقبوا النخبة التي كانت تحكم، واستبدلوها لغيرهم من خلال صناديق الاقتراع.

إذن نحن أمام إرادة الشباب الذي يمثل المستقبل، والذي تبلغ نسبته من مجموع المجتمع التونسي، حسب آخر التعداد العام للسكان 30 في المائة. بل إن الشباب بكثافة تصويتهم للسيد قيس سعيد قد منحوه قوة استثنائية؛ حيث إنه أقوى من حيث التصويت من كل الأحزاب مجتمعة. ولا نعتقد أن ترشحه كمستقل لا حزب وراءه ستضعف من دوره كثيراً، باعتبار أن الرجل يمتلك أقوى حزب، وهو حزب الشباب، وصوَّت له ثلاثة ملايين ناخب تونسي، وفاز بفارق ساحق حيث سيدخل قصر قرطاج بنسبة 74 في المائة.

أيضاً هناك ملاحظة أخرى، وهي أن التونسيين يولون عناية خاصة للانتخابات الرئاسية، رغم أن صلاحيات الرئيس دستورياً محدودة، والنظام برلماني، وللكتل النيابية الوزن الأقوى والمحدد في تشريع القوانين، ولكن الواضح أن تمثلات التونسيين للنظام الرئاسي ظلت كما كانت قبل الثورة، أي النظام الرئاسي أو الرئاسوي الذي تكون فيه الكلمة والقرار الفاصلين للرئيس.
من ناحية ثانية، فقد نجح السيد سعيد في إحراز تقدم هائل في الدور الثاني خلافاً للدور الأول، الذي كان فيه الفارق بينه وخصمه السيد نبيل القروي نحو الثلاث نقاط. فكيف نفسر ذلك؟

من المهم التذكير أن المترشح الثاني لمنصب رئيس الجمهورية السيد نبيل القروي، قد تعرض إلى الكثير من الاتهامات، وتم سجنه طيلة 48 يوماً، ولم يخض حملته الانتخابية بشكل عادي وسليم، وربما قد أثر ذلك على طبيعة حضوره في المناظرة التلفزيونية التي لعبت دوراً قوياً في إضعاف حظوظ القروي، وتقوية حظ السيد قيس سعيد رئيس تونس الفائز، فكان الالتفاف الشبابي حول قيس سعيد لِما أظهره من معرفة بالقانون، ومن مواقف قومية، ومن غيرة على الشباب والقضية الفلسطينية، الشيء الذي اعتبره خصومه شعبوية ستجلب للبلاد مشكلات في غنى عنها، في حين أن المترشح الثاني كان منهكاً، ولم ينجح في توضيح مشروعه، خصوصاً الدفاع عنه بقدرة على التبليغ مع السقوط في بعض المواقف النقدية التي لم تخدمه بقدر ما خدمت خصمه.

لقد اختار ثلاثة ملايين تونسي أن يعطوا أصواتهم لأستاذ جامعي يسكن في شقة اشتراها بالأقساط، ومترشح رفض التمتع بمنحة التمويل العمومي في الانتخابات، فكان يمثل العلم، ويمثل الطبقة الوسطى التي تعرضت للتهرئة الاقتصادية في السنوات الأخيرة، إضافة إلى أنه من خارج النظام وبكر سياسياً.

أيضاً هناك نقطة خدمت كثيراً السيد قيس سعيد، وساعدته في مقاومة الاتهامات التي راجت حول الجانب المحافظ فيه، وأيضاً اتهامات أخرى تقول بأن لديه علاقات مع السلفية وغيرها؛ خصوصاً أن فوز قيس سعيد في الدور الأول من الانتخابات الرئاسية جعل الإسلام السياسي يدعو إلى التصويت لصالحه، وضد السيد نبيل القروي في الدور الثاني. هذه النقطة تتمثل في صورة زوجته التي أضافت له الكثير، سواء بهيئتها التونسية العادية، وأيضاً بكونها قاضية تتمتع بسمعة جيدة في القضاء التونسي.
إن الفوز الساحق للرئيس قيس سعيد وخروج أنصاره للتعبير عن فرحتهم في شوارع تونس، واحتفالهم بالديمقراطية، كل ذلك أرسل رسالة جيدة تتمثل في أن صناديق الاقتراع سلطة حقيقية، وأن الشباب خزانها الأقوى.

طبعاً التحديات كثيرة جداً والأحلام كبيرة، ولكن المكسب الواضح أن تونس دخلت فعلاً زمن دوران النخب، وهو الذي سيحسن الفعل السياسي، ويجعل الساسة أكثر اعتباراً لوعودهم ولدورهم.

المصدر
الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى