كتَـــــاب الموقع

ذهبت قوانينُهُ.. وبقي البنطلون

فرج عبد السلام

لا يتخيّل البعض أن ارتداء المرأة في السودان للبنطلون كان من بين الفواحش التي ترتكبها النساء، وتعاقبُ مرتكبة هذا الجرم الفظيع بالجلد الذي لا يُشترط أن يكون في مكان خاص بل يجري في العلن لتأكيد فداحة الخطيئة.. هذه ليست دُعابة كما قد يعتقد البعض، لكن هذا وغيره من القوانين القروسطية الجائرة كانت من إبداع ما سمّاه البعض بمجلس “الصحابة العام” وهو تحالفٌ من الإسلامويين والعسكر (الترابي/ البشير) حكم السودان لأكثر من ثلاثين عاما حتى قيام الثورة الشعبية في العام الماضي. وفي هذا الأسبوع صادقت السلطات الجديدة الحاكمة في السودان على إلغاء ما أسمته بالقوانين الجائرة التي سادت خلال سطوة كهنوت الدين والعسكر.

تمرُّ على الشعوب أوقاتٌ تضيعُ فيها بوصلةِ الحياة الطبيعية، والإنسانيّة، والنماء، وفي الغالب يحدث ذلك عندما يجِدُ مدّعو الإيمان، أنهم أوثق صلة بالسماء وأكثر دراية بمصالح الناس وشؤون دنياهم، فتكون النتيجة حياةً بائسة أقرب منها إلى العدم والتدهور الاقتصادي والتفكك الاجتماعي. وقد علّمتنا التجارب أن سدنة المعبد ومن يرون أنهم ظل الله على الأرض لا يجدون غايتهم في التحكّم في مصائر العباد، إلا عندما يتحالفون مع السلطة، الممثلة غالبا في طبقة العسكر، فمنهم يستمدون قوتهم في فرض قوانينهم المخالفة لفطرة البشر، وفي قمع مخالفيهم.

صحيح أن سطوة الإسلامويين في السودان لم تبدأ مع البشير والترابي، وإنما يعود تاريخها إلى عهد النميري حين تمكن التيارُ الإسلامويّ ممثلا بالإخوان من الهيمنة على البلاد بعد انقلاب جماعة “هاشم العطا” المتهمين بالشيوعية، فأصدر النميري عام 1983 ما عُرف بـ “قوانين سبتمبر” المتعلقة بتطبيق ما رأوا أنها شريعة إسلامية، وخلال تلك الفترة طُبّقت أبشع أنواع الممارسات ضد المختلفين، وأشهرها إعدام الشيخ الدكتور “محمود طه” بسبب كتبه والإفتاء بكفره. وفي النهاية تُوّجت تلك الحقبة المظلمة بانقلاب الضباط الإسلامويين وعلى رأسهم البشير.

لم يكن “حسن الترابي” زعيم التيار الإسلاموي بعيدا عن السعي المحموم لاستنساخ تجربة الخميني في إيران، لتطبيق رؤية تيّارِه لما يظنه نظاما للحكم في السودان المتعدد الأعراق والثقافات بحكم موقعه الجغرافي وتكوينه. فكانت النتيجة أن تشظى البلد والمجتمع ودخلا مرحلة تيهٍ عظيم، لم تقتصر نتائجه على انفصال الجزء الجنوبي من البلاد ذي الغالية المسيحية بعدما أيقن ساكنوه صعوبة أن يجمعهم وطن واحدٌ مع قوم يعيشون بأفكارهم وقوانينهم في زمن سحيق، وسعيهم لتحقيق خلافة إسلامية، ومحاولة تطبيق قوانين وشرائع عليهم لا يمتون لها بصلة.

وجد العقل المدبّر “الشيخ” الترابي الفرصة مواتية للشروع في تجميع القوى الإسلامية المتطرفة وأسلمة المجتمع، فقام بدور الوليّ الفقيه، تأسّيا بإيران. فالدِّينُ أداةً مناسبة للجذب السياسي، وتجربةُ الإخوان ليست سرّا في هذا المجال، وخلال ثلاثين عاما لم يجنِ السُّودانيون غير قوانين الشريعة تلك، من فرض الحِجاب والجلد والوصم بالرِّدة عن الدِّين، وتشجيع عادات ظالمة تحط من قدر المرأة وتعطّل فاعليتها في المجتمع مثل “ختان الإناث”. وكلّ من لم يهاجر من أهل السودان إما طلبا للرزق أو هربا من الاضطهاد بسبب قوانين مجلس الصَّحابة، لم يجن غير الحروب والاضطهاد، ومطاردة الشَّباب بالعقيدة الدِّينية.

لعل في إلغاء تلك القوانين الآن معنى حقيقيا للتخلص من آثار تلك الحقبة المظلمة، وممن يرون زورا وبهتانا بأنهم أوصياء على الناس وعلى ضمائرهم في هذا العصر المتطور الذي أصبحت فيه المعلومة متاحة للجميع، وانتفى فيه دور سدنة المعبد وألاعيبهم، ولعل من أهمّ هذه التشريعات الأخيرة هو قانون تجريمِ ختان الإناث، هذه العادة التي تحط من قدر وكرامة المرأة، وعلى الرغم من أن هذه العادة المذمومة لا تقتصر على السودان، فهي تستشري في معظم دول وادي النيل، فإنه وبحسب إحصاءات للأمم المتحدة، قد عانت نحو تسعين بالمائة من النساء والفتيات السودانيات من هذه الممارسة البشعة.

بحسب كل المراقبين عن قرب، باتت ثورة السودان الأخيرة جزءا أساسا من الحياة اليومية، وبات من الصعب إهمال مطالبها. فالانتقادات الآن تُمارس بحرية وبصوت عالٍ، حتى ضد المؤسسة العسكرية، ويبدو أن الخوف القديم من شرطة الآداب الدينية التي تحصي على الناس أنفاسهم وتطارد النساء وبنطلوناتهن قد تبدّد، كما يبدو أن السودان وشعبه في الطريق إلى مستقبل جديد يستحقونه بعد طول معاناة، وقد وضعوا جانبا قضية البنطلون الخطيرة بعد أن ذهب صاحبها إلى غير رجعة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى