مقالات مختارة

ذكريات داعبت فِكْري وظَنِي

فتح الله ابزيو

الأسبوع الفائت آنَسَنِي، وَوَ” نَّسَنِي ” في غربتي الثانية ، بَين أَهْلِي وقَومِي بمَنْفاي الاختياري، الصديق الصالحين الزيّاني القادم من المملكة المتحدة ، وكان برفقته الأحباب الكرام، عادل المنصوري ، والعزيز فتح الله اليمني .. كانت سهرة مليئة بذكريات سنوات طِوَال اقتربت من اربعة عقود من الزمان ..” جَابَتْ ” سهارينا، وَ” كَرْكَرَت ” معها هُموما وجِرَاحات غائرات، استوطنت نفوسنا وأجسادنا، وعشناها بآلامها واحزانها، وأدق تفاصيلها المُبكية المؤلمة..

فقد ذكَرني صديقى الصالحين بالحاج على بوزيد الرجباني ،شَرِيكنا في الغربة والوطن، والمعارضة ،وشريكنا ايضا في متجرنا بمنطقة كوِينزْ وَيْ في لندن،.. ذات يوم بارد درجة حرارته كانت تحت الصفر، وبالتحديد يوم الاحد الموافق 26 نوفمبر من عام 1995م، ففي صبيحة هذا اليوم المشؤوم، وُجِد رفيقنا الرفيق على بوزيد ابن منطقة الرجبان العزيزة، وابن الوطن البار العظيم، مذبوحا ومطعونا عدة طعنات غادرة خسيسة جبانة نذلة، أصابت رقبته وقلبة الكبير، في مقتل..

يَا شريكي الصالحين ما كنت ارغب هذه اللحظات، بالحديث عن تلك الأيام .. ( الله يهديك يا صاحبي الصالحين ويحفظك .. فقد ، صَحّيْت المواجع فِيّا، وَالّلِي فيّْ امْكَفِينِي، ويكفي جميع الناس)، ..وعلى الرغم من أنها فَواجع ومَواجع مُوجعة، لكنني ياصديقي سأسترسل وأذكر تلك الذكريات والأحزان المؤلمة بعذابتها ودموعها الغزار ولوعاتها، وعن طريقك أكتبها للناس الطيبة فقط عُشّاق الوطن ومحبيه ،..

أجل يا شريكي ، لِمُحِبِي الوطن وعشاقه فقط .. فقط .. فقط ،.. ففي ذلك الصباح الكئيب، اتصل بي فضيلة العالم المالكي الشيخ الجليل الدكتور محمد الطاهر المقوز حفظه الله ورعاه، وأخبرني (عَ ،الرّيْق) أن الحاج على بوزيد تعرض لإعْتداء غاشم في دكانه، واقفل سماعة الهاتف ، بعد قليل وصل فضيلة الشيخ الى بيتى، في منطقة وِيست هِنْدُون واصطحبني معه الى ( الدكان ) .. كان الطقس باردا جدا، والطرقات شبه خالية من المركبات والمَارة ،..كانت الساعات الاولى من صباح يوم عطلة نهاية الاسبوع..

ما ان وصلنا الى شارع ويست بُوْرن غروف في حي كوينز وَيْ الرّاقي حتى شاهدنا بعض الوجوه الليبية من ابناء الجالية المقيمين في لندن كان العدد في هذا الوقت قليلا،.. وكان الدكان مغلقا وبداخله مجموعة من رجال اسكتلانديارد، ورجال البحث الجنائى .. وكان الجسد الطاهر، للحاج على بوزيد ممددا على الارض في جوف المحل الذي تساقطت كل بضائعه من على ارفف الدكان ..وقد اخبرنا احد رجال الامن بأن المرحوم على بوزيد قاوم القتلة بقوة، وشجاعة .. شاع خبر مقتل سي على بوزيد وبدأ الكثير من ابناء الجالية في لندن يتقاطرون على المحل زرافات ووحدانا ..احد الواقفين معنا امام المحل كان من مدينة الحاج على بوزيد، واحد معارفه،.. كان هذا الرجل حديث الاقامة في المملكة المتحدة، ..وكانت البَلَادَة والانتهازية تشع من عيناه ” المطمزة ” المختفية خلف نظارة طبية سميكة..

كان صاحب النظارات الطبية يقيم في مدينة بيشاور على الحدود الافغانية ، وبعد اندحار الجيش السوفيتي وهزيمته في افغانستان ضاقت جبال ووديان تلك البلاد، بالأفغان العرب وقررت اجهزة استخبارات الدول التى (رمتهم) هناك لمحاربة الشيوعية مضايقتهم وطردهم .. استعانت استخبارات تلك الدول التى سَهّلت وصولهم الى افغانستان، بالمثل الشعبى الليبي الذى طالما ردده النائب بوبكر بعيرة وقالوا لهم ( رَوْحُوا كل حَدْ يلعب قدام حَوْشَه، ..وشَيْطُوا النيران في حِيْشَانكم وأوطانكم ) ..اتصل صاحب النظارات الطبية من هناك بالحاج على بوزيد طالبا منه ان يُسهل له مهمة القدوم الى لندن ..تواصلت مكالماته التلفونية وكان يَلحْ لدرجة الاستجداء .. حوالى اربعة اشهر اوخمس والحاج على بوزيد مهتما بموضوعه ، ويتصل بمكاتب المحاماة في لندن لتسهيل وصوله..

بعد خمسة اشهر تقريبا تم ( شحن المحروس ) بسلامة الى لندن ،وكان الحاج على بوزيد في استقباله بالمطار .. استضافه الحاج على في بيته الى ان تحصل على بيت .. يوم مقتل الحاج على بوزيد كان ( قليل الخير الانتهازى ) واقفا معنا امام المحل،.. حينها لا يزال جسد المغدور ممددا وسط ( الدكان ) ودمائه لم تجف بعد، .. كان يقف معنا امام الدكان المحامي الصديق الدكتور على عبدالجواد بوسدرة الخبير القانوني في اجراءات اللجوء والاقامة القانونية بالمملكة المتحدة.. استغل صاحب النظارات الطبية وجود صديقنا المحامى في هذا المكان ،وتقدم نحوه ووشوشه في اذنه قائلا( يا استاذ على ازْعَمه وقوفي امام هذا الدكان يدعم موقفي لدى ادارة والهجرة واللجوء السياسي وأتحصل على حق الاقامة ) .. أشاح الدكتور على بوسدرة بوجهه ، واستغرب من انتهازية هذا ( المجاهد ) .. كرر ( المَنْجُوه ) سؤاله ،ولكن بصوت مرتفع هذه المرة.. كرر الانتهازى سؤاله هذه المرة ولكن بصوت مرتفع، وبطريقة الدكتورعلى بوسدرة الهادئة وبإبتسامته التى لا تعرف ان كانت ابتسامة امْ سخرية، أوغضب وقال له ” خير إنشاء الله “..

أنا على يقين ان الدكتور على بوسدرة متابع أو على الاقل يطّلع او ( يتباوع ) من حين لآخر ما انشره من خواطر وذكريات على صفحتي المتواضعة، فكُلي رجاء ان ينفي الصديق بوسدرة، أو يؤكد هذه الحكاية الحزينة المعيبة حتى لا يتهمنى احدا بالتشهير بخلق الله .. يا صديقى الصالحين ألمْ اقل لك انك(صَحّيْت المواجع فِيَّ )،.. رحم الله شريكنا ورفيقنا سي الحاج على بوزيد الرجباني الذى عاش ومات من اجل وطنه والمبادي النبيلة التى فقد من أجلها حياته ..اما رفيقك وصديقنا العزيزعادل المنصورى فهو حكاية فخر مُشَرّفة اخرى، .. يوم اطلاق النار على المتظاهرين امام المكتب الشعبى بلندن ومقتل الشرطية البريطانية ايفان فليتشر،في 17 أبريل84 م كان عادل المنصورى معنا امام السفارة ، يومها كان طالبا موفدا من قبل وزارة التربية والتعليم..

لم (يَكْرسْ) في لندن الواسعة الجميلة، ولم يرفع شعارات الجبناء والفئران ( ألْحسْ مسَني وانْبَاتْ متهني، واللي يَاخذ اُمْنَا هُوْ بُوْنَا ) لَمْ يخف على قطع المنحة الدراسية ،وقطع رأسه المرفوع الكريم..، لم يخف من تقارير الجواسيس المندسين بيننا، يومها كان كل من يقترب من المعارضة الوطنية ، يُعاقب ويُعذب (عذاب الهدهد ) .. وقف عادل مع المتظاهرين في الصف الامامي وحين اطلق الرصاص تلقى عادل نصيبه من رصاص الغدر واصيب اصابة بليغة كادت أن تسبب له بتر ساقه من منبته لولا لطف الله وعنايته ،ومستشفيات لندن .. اخفى اصدقائه اسمه عن وسائل الاعلام وطلبوا من السلطات ان لا تعطي اية معلومات عنه حتى ينكشف امره للسلطات الليبية القاسية المتغطرسة ،.. لقد تشرفت بمعرفة عادل المنصورى منذ اكثر من ثلاثة عقود لم اسمع الدكتور عادل تحدث يوما او زايد بهذه الحادثة التى تعرض لها في ميدان المعارضة .. اعتبر عادل المنصورى هذه الاصابة من اجل الوطن، وللوطن ( الذى كثر المنافق فيه والزنديق ) وصمت صمت النُسَّاك، والقديسين..

لم يتاجر بتلك الرصاصات الغادرات التى اخترقت جسده ،ولم يستغلها كما فعل ويفعل الكثير من اشباه المعارضين، لم يقبض قرشا واحدا كما قبض ( فلان الفلاني ، وغيره فلان وفلان ) ثمن معارضته بالدولار، واليُوْرُو .. بعد ثورة فبراير،لم يصاب عادل المنصورى ،بِدَاء الهرولة، واللهث وراء المغانم والمناصب كما فعل الكثير الكثير من المعارضين..

العزيز عادل المنصوري احترم نفسه فأحترمه الجميع .. لك يا عادل يا عزيز النفس فائق الاحترام والمودة والتقدير .. اما صديقنا الدكتور العزيز فتح الله اليمنى فهو حكاية اخرى مليئة بالوطنية والعلم والتفوق .. اذا كان في العمر بقية، فللحديث عن عزيزنا فتح الله اليمني بقية .

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى