مقالات مختارة

دوامة العنف تعود مجدداً إلى سريلانكا

جمعة بوكليب

لو رأيتَها على الخريطة، أول مرة، لظننتها قرطاً إجاصيّ الشكل، معلَّقاً في أذن شبه القارة الهندية، التي رغم ازدحامها بثقل بشري مأهول، ما زالت قادرة على مقاومة الغرق، في مياه المحيط الهندي. سريلانكا، تعود، مجدداً، بعد غياب قرابة عقد من الزمن، إلى دائرة الضوء. ويا لها من عودة!

قبل عشر سنوات كانت سريلانكا لا تغيب عن الأسماع، وكانت وسائل الإعلام العالمية مشغولة بنقل تفاصيل حرب أهلية ضارية دامت 26 عاماً، وقودها الناس والحجارة، يقودها مقاتلو نمور التاميل، الهندوس، الانفصاليون، في شمال البلاد وشرقها، بغرض تأسيس دولتهم المستقلة عن كولومبو، العاصمة، حيث الأغلبية البوذية السنهالية تُحكم سيطرتها، وتُمسك بأياديها الخيوط والمصائر. عقب انتهاء الحرب، بخسارة النمور، بدأت سريلانكا، تدريجياً، إعادة تأهيل نفسها، وواصلت التقاط أنفاسها، ببطء، وبدأت، من جديد، تعرض في سوق السياحة العالمية إغواء جمال طبيعتها الساحرة، لاستقطاب اهتمام السياح إليها، وأيضاً، لاجتذاب المستثمرين. ويمكن القول إن قرب موقع سريلانكا من جارتها الهند، وتأثيرات ذلك القرب، سلباً وإيجاباً، شبيه بما حدث لآيرلندا الذي وضعها موقعها الجغرافي جارةً لدولة عظمى هي بريطانيا، حيث ضغْط الجار القوي، سياسياً، وعسكرياً، لا يترك مجالاً، أو فرصة لتفاديه، وتأثير ذلك على مجرى الواقع الحياتي، وما يخلقه من إشكالات وضغوط على التطور السياسي والاقتصادي.

ديموغرافياً، يبلغ تعداد سكانها 22 مليون نسمة، ينقسمون، إثنياً ودينياً، على نحو غير متساوٍ. يستأثر السنهال بالأغلبية، حجماً وعدداً، مشكّلين أغلبية سكانية، بوذية الديانة، بنسبة 70%. نمور التاميل، الهندوس، يأتون ثانياً، بنسبة 12%. ويأتي بعدهم المسلمون بنسبة 10%، وفي آخر القائمة يجيء المسيحيون بنسبة 8%.

ما حدث من أعمال إرهابية، مؤخراً، ليس جديداً، كلّية، على تاريخ بلاد تعودت على توتر في العلاقات الحياتية اليومية بين مكوناتها السكانية، وتأقلمت، بشكل ما، مع موجات العنف الديني التي تندلع بين حين وآخر. في شهر مارس (آذار) من العام الماضي، كان موعدها مع موجة عنف قادها متشددون بوذيون ضد المسلمين استهدفت ممتلكاتهم وأرواحهم. واستناداً إلى الباحثة الأكاديمية والحقوقية النشطة فرح ميلهار، فإن توتر الانقسام الديني بين مختلف المكونات ازداد بعد انتهاء الحرب، وأن المسلمين والمسيحيين معاً كانوا ضحاياه. فالتاميل والسنهال أصبحوا يخشون سيطرة المسلمين من خلال قوتهم اقتصادياً. أضف إلى ذلك أن التاميل استهدفوا المسلمين بغضبهم على اعتبار أنهم وقفوا حاجزاً بينهم وبين تحقيق هدفهم في تأسيس سلطة محلية مستقلة، في حين أن المسيحيين كانوا هدفاً لحملات كراهية وتعصب من السنهال البوذيين، وبموافقة ضمنية من الحكومة.

لكن ما حدث للمسيحيين، يعد بشكل ما، مختلفاً من حيث الهدف وحجم الضرر غير المتناسب، لأن مَن ارتكبوا المذبحة مسلمون وليسوا بوذيين أو هندوساً. والهدف كذلك لم يكن موجّهاً نحو نفس الطائفتين. المسيحيون، هذه المرة، كانوا الهدف، وكان عليهم دفع ضريبة مذبحة أخرى لا تقل وحشية، حدثت منذ شهر مضى في نيوزيلندا، تابعها العالم تُنقل أحداثها الدامية حيّة على مواقع التواصل الاجتماعي. كان الإرهابيون، في سريلانكا، موتورين، ولم يكن صعباً عليهم العثور على هدف لتحقيق انتقامهم، ولن يكون سهلاً على العالم، وقد بلغ الألفية الثالثة، أن يتحمل استمرار مسلسلات الدم الانتقامية هذه. ويبدو أن ما صار تُعرف بالإجراءات الوقائية ضدها ليس بالعلاج المأمول والناجع، ولا حلول أخرى تبدو في الأفق حتى الآن. وفي سريلانكا تحديداً سيكون المسلمون بعد هذه الحوادث الدامية هدفاً لحملات كراهية وتعصب، ولا يُستبعد أن يجدوا أنفسهم عرضة لعنف انتقامي يُرتكب ضدهم.

نحن، الآن، نعيش في عالم مختلف، متقدم تقنياً، لكن بوصلة القيم التي تعارف عليها ساكنوه لم تعد محطّ اهتمام أو اكتراث كأنها فقدت جاذبيتها. وهذا بدوره جعل الإرهاب يتمدد عابراً للحدود والقارات، والتعصب بمختلف أشكاله وتنوعاته يعمّق جذوره أكثر في النفوس والعقول، وتتفاقم أشواك الكراهية، وتضيق الفضاءات أمام قيم وثقافة العيش المشترك القائم على قبول الآخر، وأصبح الكائن البشري، نتيجة لذلك، مهدداً في عيشه وفي حياته من الإرهاب، ومن القمع والاضطهاد، ومن التلوث البيئي، ومن كوارث الطبيعة، ومن أمراض العصر، كالكآبة، والوحدة… إلخ، فما العمل؟ ومن أين لعالم مصاب بتوتر رعب دائم أن يستعيد توازنه نفسياً ويفكر بعقلانية في إيجاد حلول موضوعية تساعده على الخروج من متاهة أزماته وتخفيف حدة توتره؟
ما حدث في سريلانكا، وقبلها في نيوزيلندا، وقبلها… وقبلها… كابوس مؤرِّق للنفس الإنسانية، وسؤال في حاجة إلى إجابة، وليس إلى مزيد من عنف لا يزيد الحياة إلا موتاً، وخراباً، وخسارة لا تعوَّض.

المصدر
aawsat

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى