كتَـــــاب الموقع

حين ألبست رغد والدها ثوب الإمبراطور

رفعت محمد

يروى عن الدكتاتور الإسباني فرانكو، أنه حين طلب منه، وهو على فراش الموت، أن يلقي تحية الوداع على الناس الذين احتشدوا أمام قصره، سأل باستغراب: وإلى أين سيذهب الناس حتى جاؤوا لوداعي؟!. تمثل حالة الدكتاتور فرانكو مثالا لحالة الإنكار التي يعتبرها علم النفس آلية دفاعية مهمة، يرفض فيها الشخص الواقعَ الذي لا يمكن احتمال قبوله، أو الذي يؤدي قبوله والاعتراف به إلى آلام حادة، فتقوم آلياته النفسية بإنكار الواقع ذاته والتعامل معه وكأنه لم يحصل.

قبل أيام خرجت علينا رغد ابنة الدكتاتور العراقي صدام حسين في مقابلة حصرية على إحدى القنوات الفضائية، بعد ثمانية عشر عاما من سقوط نظام أبيها، لتعلن أنه، ورغم الحروب الثلاث التي أقحم بلده فيها والممارسات القمعية التي مارسها ضد معارضته على مدى 24عاما، لم يكن دمويا!! وهو أمر أثار سخرية واسعة ممن عرف تاريخ الرجل، وخبر ممارساته بعيدا عن هالة القداسة القومية التي يحلو لأنصاره إسباغها عليه، وفسر البعض مقولتها بأنه ربما كان والدها فعلا مغرما بأساليب القتل الأخرى التي لا يضطر معها لرؤية الدماء، كالإبادة بالسلاح الكيماوي.

لا يخفى عمن يعرف شخصية صدام نرجسيته، وما انبثق عن هذه النرجسية من السمات والميول التي أسهمت في إشعال الحروب واحدة تلو الأخرى، مدفوعا بحس الانتقام، والعناد، وتضخم صورة الذات، ولعل الأبرز غيابه عن الواقع، والهرب من تحمل المسؤولية وإلقاء اللوم على الآخرين، في ظل غياب أي آلية للتراجع والتقويم، بل على العكس، في كل مرة كان هناك إصرار على إقحام الشعب في معركة جديدة أكبر وأخطر، فسلوكيات النرجسي المتطرف تستند إلى الأحلام والتطلعات وليس إلى التعلم من إخفاقات الماضي.

لقد حاولت رغد في مقابلتها الظهور بمظهر القوية، التي لم تهزها الأحداث التي أطاحت بوالدها، ولا تلك التي تبعت سقوطه، في محاولة منها على ما يبدو لتقديم نفسها كمنقذ لمن لا يزال يتغنى بأمجاد القائد الفذ، لكنها في المقابل أيضا بدت منفصلة تماما عن الواقع، وعن المتغيرات التي عصفت بالمنطقة، وأطاحت بجميع الدكتاتوريات التي زامنت فترة حكم صدام، ولا أدري هنا هل كان ظهورها محض قرار خاص، أم أنه بتوجيه من بعض القوى الإقليمية التي تسعى إلى خلط الأوراق من جديد، للضغط على النظام الإيراني الذي تمدد نفوذه في الإقليم بعد سقوط صدام، خاصة في العراق الذي حاربه لثماني سنوات قبل أن تنتهي تلك الحرب على قاعدة لا غالب ولا مغلوب.

كان الأجدى برغد بعد المدة الطويلة التي مرت على سقوط والدها أن تكون أفاقت من جنون العظمة الذي زرعه صدام فيها، وتحلت بفضيلة الإفاقة بعد المصيبة، وأجرت مراجعة للأخطاء التي ارتكبت في ذلك العهد الأسود الذي صبغ حقبة والدها، في مسعى منها لمواجهة القصور والخلل بشجاعة، غير أن المشكلة الكبرى هي أنها أصرت على الظهور بمظهر المنتصر، تمجيدا لوالدها، لا لشيء إلا لأن البلد الذي ـأنهكه الدكتاتور، ما زال يعاني من نتائج تلك الحقبة المريرة، وبالتالي فهو برأيها يحتاج إلى المنقذ الذي تحاول أن تكونه، مستندة إلى وهم انتصارات أبيها على شعبه، لا على أعدائه.

جمعت رغد في مقابلتها بين طريقتين أساسيتين لتعامل النرجسي المتطرف مع الحياة، الأولى هي التظاهر بالعظمة وتضخيم الأنا، مع ما يرافق ذلك من تنسيب الإنجازات الضخمة والوهمية لوالدها، والثانية هي لعب دور الضحية، إذ حاولت أحيانا التخفي خلف ستار الاضطهاد بمهارة تدعمها القدرة على التلاعب بالمشاعر، في محاولة منها لقلب الطاولة على الآخرين، وإلقاء اللوم عليهم، بدلاً من تحمل مسؤولية أفعال عائلتها وعواقب قراراتها الكارثية.

لقد ورثت رغد عن والدها متلازمة الغطرسة وقد عززتها حالة العزلة التي عاشتها على مدى السنوات الماضية، وغذتها سمات النرجسية المتطرفة والسعي الحثيث للقوة مع غياب آليات اتخاذ القرار ودراسة الواقع، الأمر الذي خلق لديها واقعا افتراضيا موازيا، حاولت في ظهورها الأخير أن تخرج منه للعلن عبر الظهور إعلاميا، لجس نبض الشارع، واستطلاع رد فعله حول عودة محتملة لها إلى الحياة السياسية التي حرمت منها بإرادة العراقيين الذين ضاقوا ذرعا بممارسات والدها وعنجهيته.

إن مقابلة رغد صدام حسين لا تخرج عن دائرة صناعة الوهم التي أتقنها الإعلام العربي، منذ إذاعة صوت العرب حتى الآن، لكن ما فاتها أن الوعي العربي اختلف تماما، وهي إن وجدت من يصفق لها، ويثني على الثوب الجميل الذي حاولت إظهار والدها به، فإن ثمة من يملك عيونا غير منحازة، باتت تدرك تماما أن ثوب الإمبراطور الجميل ليس إلا وهما، وستسمع شاءت أم أبت، ملايين الصرخات التي توقظها على أن الإمبراطور عارٍ، بعد أن ترك مملكة عارية من الجوع.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى