مقالات مختارة

حرب ١٩٦٧ بين الامس واليوم

مرت ذكرى حرب ١٩٦٧منذ أيام، وهي ككل عام تأتي في ظل أزمات العالم العربي المتشابكة. لقد عكست هزيمة ١٩٦٧ الضعف العربي الرسمي الذي يتميز بالارتجال وركاكة التقدير في إدارة الحروب والأزمات. بعد خمسين عاماً ما زالت الهوة بين العرب وإسرائيل قائمة. والسبب في ذلك أن النظام العربي الذي كان يفترض شحذ قدراته على مواجهة الصهيونية لم يسعَ لتجديد نفسه وتغيير خطابه وتمكين مجتمعه. فقد كانت وما زالت قضية الحرية والتمكين ومكانة الشعوب ومشاركتها في صنع القرار قضية كبرى أدى غيابها إلى هزيمة ١٩٦٧. المسائل ذاتها غائبة في بلادنا العربية اليوم وذلك على رغم مرور ٥٠ عاماً على الهزيمة.

لقد فتحت حرب ١٩٦٧ الباب أمام جيل عربي صاعد ليعبر عن رفضه الهزيمة، وفتحت الباب لنشوء العمل الفدائي الفلسطيني، لكنها في الوقت ذاته كانت بداية احتلال إسرائيلي طويل استمر الى يومنا هذا. هذا الاحتلال تحول مع الوقت إلى أحد أهم اسباب العنف والغضب بل والإرهاب العالمي في إقليمنا. الاحتلال الإسرائيلي المستمر والحروب التي شنتها إسرائيل على العرب منذ حرب ١٩٦٧ ضعضعت العالم العربي وسببت الكثير من التفكك في ارجائه وضاعفت أزمته الوجودية. يكفي أن نراجع دور إسرائيل في لبنان وحروبها والدمار الذي خلفته وصولاً إلى حرب ٢٠٠٦ أو دورها في الحد من مصر وقدراتها وتكبيلها بالاتفاقات وبواقع سياسي لمصلحتها. لقد استفادت إسرائيل من حرب ١٩٦٧عبر توجيه ضربة كبرى للناصرية والقومية العربية من جهة، مما فتح الباب للصعود الإسلامي، كما حققت إسرائيل مكاسب أساسية من خلال جعل الولايات المتحدة الأميركية دولة منحازة إليها.

في إسرائيل مجتمع إسرائيلي يهودي يميل إلى الوحدة (على رغم التفرقة والعنصرية ضد العرب)، بينما العرب على رغم روابطهم التاريخية والثقافية واللغوية مجتمعات تميل إلى التفكك، ففي الدولة العربية الواحدة أقسام عدة تتصارع بين يمين ويسار، و «إخوان» وغير «إخوان»، وحكومة وشعب، ومعارضة ونظام، وسنّة وشيعة ومسيحيين ومسلمين. وعلى رغم التناقضات في الكيان الإسرائيلي إلا أنه وحّد قوميات شتى وشعوباً مختلفة ولغات متنافرة في إطار جامع، وأنشأ مؤسسات تتعامل مع الخلافات كالبرلمان والأحزاب. وعلى رغم اضطهاد إسرائيل العرب ودخولها في حروب استعمارية وتوسعية، لم تتحجج بدواعي الأمن والفتنة كما يتحجج العرب لمصادرة حريات المجتمع اليهودي. لقد فهمت اسرائيل أن جزءاً من قوتها مرتبط بحرية الصحافة والإعلام والمجتمع المدني لكل اليهود من سكانها، وإن فقدان هذه الأبعاد سيضعفها.

نحن العرب في المقابل فقدنا حرياتنا وقدرتنا على المشاركة في تقرير مصيرنا منذ رحيل الاستعمار عن بلادنا ومنذ تولي حكومات وطنية شؤوننا. وما زال سبب تفككنا، بعد عقود على احتلال القدس الشريف، غياب التمثيل وضعف دور المجتمع ومصادرة الحرية. إن المجتمع الفاقد للحقوق الخائف من التعبير عن رأيه هو مجتمع غير قادر على مواجهة أعدائه، والسبب في هذا أنه يخشى واقعه وقادته وأجهزته الأمنية أكثر مما يخشى عدوه الخارجي.

إن مجيء دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة منذ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٧ أعطى هذه المرة ذكرى حرب ١٩٦٧ نكهة مختلفة. ترامب رجل أعمال هدفه تمكين مصالحه الذاتية والأسرية، وهو لا يبدو مهتما بتحقيق نجاحات حقيقية لمواطني الولايات المتحدة. ومنذ مجيء ترامب نجده يقود الولايات المتحدة من مأزق إلى آخر. في هذا المجال تواجه قيادة ترامب مقاومة ضارية من مؤسسات الدولة الاميركية ومن مؤسسات المجتمع المدني الأميركي.

لكن وبحكم المصادفة التاريخية هذه المرة الأولى التي يأتي إلى البيت الأبيض رئيس مائل بوضوح بحكم التداخل العائلي والأيديولوجية اليمينية إلى الحركة الصهيونية وعتاة اليمين فيها. هذا التواصل مع الحركة الصهيونية يجعل من الرئيس ترامب بالتحديد أحد أخطر الرؤساء الذين قادوا الولايات المتحدة منذ قيام إسرائيل عام ١٩٤٨. ولهذا فمشروعه الهادف لبناء حالة تحالف وعمل صفقة كبرى بين العرب وإسرائيل، يتطلب كل طرف قد يشكل بؤرة من بؤر المعارضة للمشروع. ترامب يشن بصورة مباشرة وغير مباشرة ما يعتبره الحملة الأهم لترتيب سلام يتجاوز بكل المقاييس جوهر الحقوق وأساس الصراع.

لكن الرئيس ترامب وإدارته سيصطدمان بواقع المنطقة العربية وواقع الصهيونية، فتناقضات المنطقة والإقليم أكبر من الاستيعاب، والسلام بين العرب وإسرائيل غير ممكن من دون التعامل مع حق العودة وقضية الأرض والقدس بكل ما تعني من مضمون. إن الحل السياسي من دون إيقاف الصهيونية عند حدها بسبب عنصريتها واضطهادها العرب غير ممكن، فمع الاضطهاد ستستمر المقاومة، ومع العنصرية ستبقى نضالات وتحركات الناس لتأمين حقوقهم. سيصطدم ترامب بواقع تمرد الإقليم العربي على سياساته غير المدروسة، وسيكتشف أن الضغط باتجاه الحل النهائي سيؤدي إلى نتائج عكسية.

وفي الذكرى الخسمين لحرب ١٩٦٧ لدينا رئيس أميركي لا يعي عمق الصراع وطبيعة التاريخ الذي يجعل صفقة كبرى لا تتضمن الحقوق التاريخية للفلسطينيين وحقهم بالعودة وبدولة مستقلة فعلاً وقولاً وعودة القدس العربية إلى السيادة العربية أمراً غير ممكن. بل إن صفقة بلا الشتات الفلسطيني وحقوقه هي أيضاً بلا أفق. ما لا ينتبه إليه الرئيس ترامب أن صفقة في ظل عدم الاستقرار العربي وعدم الاستقرار السوري والعراقي والإقليمي وفي ظل الأزمة في مصر والدول العربية الأخرى مكتوب عليها الفشل.

في عام ١٩٦٧ لم تكن حقوق الإنسان ولا الديموقراطية ولا غيرها من القيم ذات قيمة كبرى في العالم، بل وبسبب سيطرة دول كالاتحاد السوفياتي والمعسكر الشيوعي الشمولي، كان العالم يعيش صراعاً محموماً بين السوفيات والأميركيين، بل كانت الولايات المتحدة تدعم الديكتاتوريات طالما كانت هذه الديكتاتوريات ضد الشيوعية. لكن العالم الآن اختلف. في عالمنا دور متنام للشباب، وتعطش للتغير، وفي عالمنا استماع للأصوات التي تنادي بالحريات وباحترام الحقوق وبمنع الحروب، وتأمين العدالة الاجتماعية ومقاومة الجشع الربحي والسلطوي وجشع السيطرة وغرور القوة. في عالمنا الراهن وعي أكبر بقضايا البيئة والبطالة والعمل والتعليم والصحة. لهذا ففي ذكرى حرب ١٩٦٧ يقف قطاع كبير من النخب العربية الرسمية كما ورئيس الولايات المتحدة، خارج الاتجاهات والآمال.

في ذكرى حرب ١٩٦٧ الخمسين أصبحت القيم العالمية جزءاً لا يتجزأ عن الواقع العربي، فالعالم العربي يريد لمجلس التعاون الخليجي أن يبقى موحداً في ظل التنوع، ويريد للحروب الأهلية أن تنتهي بصفقات تسمح بحماية المدنيين وحقوق الإنسان ودمج التيارات السلمية، إسلامية كانت أم ليبرالية ديموقراطية أم قومية، لكنه يريد ذلك في إطار ديموقراطي يسمح بالتطور والتقدم. العالم العربي يبحث عن أنظمة تشغل الشباب وتفتح لهم الفرص وتستمع لمعارضتهم ونقدهم قادتهم، ويريد قضاءً مستقلا قادراً على إيقاف القرارات العشوائية، تماماً كما فعل القضاء الأميركي مع قرارات ترامب العشوائية بحق المسلمين. في ذكرى حرب ١٩٦٧ العالم العربي متعطش للإقرار بحقوق المواطنين، وهذا غير ممكن من دون مشاركة المواطنين في تقرير مصيرهم بل وبسيطرتهم على توجهات سياسييهم. نبض العالم العربي ديموقراطي، أما واقعه السياسي العلني فعكس ذلك. لهذا بالتحديد في ذكرى حرب ١٩٦٧ يستمر العالم العربي في البحث عن نفسه وحقوقه ومكانته. في ذكرى حرب ١٩٦٧ كانت الصهوينية جسماً استعمارياً غريباً، وفي ٢٠١٧ ما زالت جسماً استعمارياً غريباً.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

صحيفة “الحياة” اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى