مقالات مختارة

حرب الغنائم مستمرة في طرابلس

الحبيب الأسود

لا شيء في طرابلس يوحي بأن المعركة الدائرة منذ أيام بين الميليشيات قد تنتهي، أو بأن اتفاق الهدنة قد يصمد طويلا، فعلى الرغم من كل الاجتهادات ومحاولات التوليف بين المتناقضات، يبقى الوضع الليبي على حاله، قابلا للانفجار في كل لحظة، وتبقى العاصمة نقطة الاستقطاب الأولى لأطراف الصراع، كونها مركز القرار، لا السياسي والدبلوماسي فحسب، وإنما المالي والاقتصادي بالأساس، تأكيدا على أن الحرب كانت في جانب أكبر منها منذ العام 2011 حرب غنائم في بلد غني بأرصدته واستثماراته وثرواته النفطية.

وهذه الغنائم التي تثير أطماع الداخل والخارج، صنعت طبقة من أمراء الحرب المحتكمين على مليارات الدولارات، والمسيطرين على مفاصل السلطة في طرابلس، يتدخلون في التوظيفات والتعيينات، ويتحكمون في مآلات ومسارات الصفقات الكبرى، يهيمنون على الاعتمادات، ويحددون أسعار الصرف في السوق الموازية، ويديرون استثمارات ضخمة في دول عدة.

في المقابل، يواجه الشعب الليبي الفقر والحاجة وغلاء الأسعار والتضخم وانحدار العملة المحلية بشكل غير مسبوق، وغياب السيولة وانهيار الخدمات كالغاز والكهرباء والتموين والصحة والتعليم ونظافة المحيط، إضافة إلى اتساع دائرة الجريمة وارتفاع منسوب النهب والسلب والاختطاف والحرابة والإفلات من العقاب.

ولكن ما دخل الميليشيات في كل ذلك؟ الجواب بسيط: لا شيء يدور بمعزل عن إرادات أمراء الحرب، ففي ما يخص الاعتمادات مثلا، تعرضت لجنة خبراء منظمة الأمم المتحدة في شهر مارس الماضي لتهديدات ميليشياوية مباشرة بعد أن تم تسريب تقرير، من 160 صفحة، يكشف عن عمليات فساد ونهب واسعة لأموال عامة، عبر عمليات مصرفية وهمية لصالح بعض قادة ميليشيات تسيطر على مصارف في طرابلس. حيث كشف التقرير عن عمليات مصرفية غير قانونية تخص 10 شركات تعمل لصالح جماعات مسلحة موجودة في منطقة تاجوراء في العاصمة حصلت على اعتمادات مستندية من مصرف الجمهورية والمصرف الليبي الخارجي بقيمة مليار دوﻻر لكل منهما حتى فبراير من العام 2016، وفي مايو الماضي كشفت تسريبات عن قائمة تضم شركات مملوكة لأمراء الميليشيات في العاصمة طرابلس جرى منحها اعتمادات مالية بقيمة 65 مليون دولار.

أما صرف العملة في السوق الموازية فقد تحول إلى مصدر ثروات طائلة للمسلحين الذين يستغلون نفوذهم للحصول على اعتمادات بالسعر الرسمي للدولار (الدولار يساوي 1.380 دينار)، ثم يعيدون طرح تلك المبالغ في السوق الموازية حيث يصل سعر الدولار إلى أكثر من 7 دينارات، وتستمر في تلك العملية الروتينية إلى ما لا نهاية، مثلا يحصل أحدهم على اعتماد من المصرف المركزي يحول بموجبه 130 ألف دينار ليبي إلى 100 ألف دولار أميركي، ثم يقوم ببيع ذلك المبلغ بـ700 ألف دينار، ثم يعيد الكرّة، للحصول على ملايين الدولارات في وقت وجيز.

وفي ما يخص السيولة مثلا، أصبح من العادي أن يقضي المواطن الليبي الغلبان يوما كاملا، وربما يقضي ليلة أمام مصرف ليضمن موقعا متقدما في طابور اليوم الموالي، من أجل أن يقتطع من رصيده 200 دينار أي ما يساوي حوالي 30 دولارا بسعر الصرف في السوق الموازية، وعندما تسأل عن السبب، سيجيبك المسؤولون والمتخصصون بأن أغلب الميسورين سحبوا أرصدتهم من المصارف منذ فترة طويلة، وباتوا يديرونها خارج الإطار المصرفي خوفا من أن يتعرضوا هم، أو أفراد أسرهم، إلى الاختطاف أو القتل، فما تبين منذ سنوات أن الميليشيات باتت تمتلك عيونا داخل البنوك، وتعرف أرصدة الحرفاء ومن خلالها تحدد من تراه ضحية مناسبة للابتزاز.

وبالنسبة لموضوع تهريب الوقود، أدان مجلس إدارة المؤسسة الوطنية للنفط منتصف أغسطس الماضي ما تعرض له رئيس لجنة إدارة شركة البريقة لتسويق النفط، من تهديدات من قبل عدة ميليشيات مسلحة في العاصمة طرابلس، مشيرا إلى أنه تم تهديد المسؤول في محاولة لإجباره على إعادة النظر في قرار حل ما يسمى بمكتب مراقبة توزيع الوقود والغاز والذي كان يرأسه ميلاد عبدالله الهجرسي، والذي تمت إحالته إلى التحقيق، كما أنه قام بإنشاء صفحة في موقع فيسبوك للجنة وهمية تدعى لجنة أزمة الوقود والغاز، واستخدم شعار شركة البريقة لتسويق النفط بشكل غير قانوني.

كما تعرّضت المؤسسة الليبية للاستثمار (الصندوق السيادي الليبي) إلى تهديدات وعمليات اختطاف طال بعض مسؤوليها في الأسابيع الماضية من قبل مجموعات مسلحة يعتقد بأنها تعمل اسمياً تحت إشراف وزارة الداخلية.

هذه نماذج قليلة مما يدور في العاصمة التي لا تزال تدار من قبل أمراء الحرب وزعماء الميليشيات، بعد أن فشل المجلس الرئاسي في تطبيق الترتيبات الأمنية التي تضمنها اتفاق الصخيرات الممضى في 17 ديسمبر عام 2015، وتنص على إخراج الميليشيات المسلحة من المدن الليبية ومن بينها طرابلس بعد سحب سلاحها الثقيل، وبعد فترة زمنية يتم سحب ما تبقى من سلاحها الخفيف، على أن تتم بعد ذلك ترتيبات دمج عناصرها في قوات الجيش أو الشرطة، أو في وظائف مدنية أخرى حسب الشروط المطلوبة للوظائف والمتوافرة لدى كل شخص، وهي الترتيبات ذاتها الواردة في النقطة السابعة من نص الاتفاق الممضى بين رئيس المجلس الرئاسي فائز السراج والقائد العام للجيش المشير خليفة حفتر خلال لقائهما الباريسي في يوليو 2017، حيث أكدا على “الالتزام ببذل كافة الجهود المطلوبة لنزع سلاح المقاتلين، وإعادة دمج المسلحين الراغبين في الانضمام إلى القوات النظامية الوطنية، وإعادة دمج الآخرين في الحياة المدنية الاعتيادية.

وسيتألف الجيش الليبي، وفقًا للاتفاق، من القوات العسكرية النظامية للدفاع عن الأراضي الليبية، بموجب ما تنص عليه المادة 33 من الاتفاق السياسي الليبي”.

لقد فشل المجلس الرئاسي في تنفيذ الترتيبات الأمنية، ولن يستطيع تحقيقها لاحقا، لأن الميليشيات المسلحة تغوّلت، وأصبحت لها مصالح لن تقبل التنازل عنها ببساطة، وأغلب قادتها متورطون في جرائم قتل وسلب ونهب واغتيال واختطاف قد تكون وراء ملاحقتهم قضائيا يوم فقدانهم نفوذهم الحالي، وأي حل سياسي لن يتحقق في ظل هذا الوضع.

وحتى وإن جرت الانتخابات فإن ما ستأتي بهم صناديق الاقتراع سيجدون أنفسهم تحت رحمة هذه الميليشيات، وبالتالي فإن لا شيء في طرابلس يوحي بأن المعركة قد تنتهي، أو بأن اتفاق الهدنة المعلن عنه أول أمس الثلاثاء قد يصمد طويلا، لأن الأمر يتعلق بمعطى مهم: فإما أن تكون هناك دولة مؤسسات وإما أن تكون هناك دولة ميليشيات.

المصدر
alarab

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى