مقالات مختارة

تغيرات جيو ـ اقتصادية مثيرة

عبد المنعم سعيد

كان فتح قناة السويس عام 1869 إعلاناً عن تغيرات مثيرة في منطقة شرق البحر المتوسط. لم يكن الوقت ساعتها يفصح عن أكثر من تسهيل الملاحة والتواصل (لم تكن هناك طائرات وقتها)، ولكن هذا الإنجاز كان كافياً لكي يخلق منافسة حادة بين القوى العظمى على مصر والشرق الأدنى، كان ثمنها قاسياً فيما بعد، حتى بات معتاداً أن يسأل التلاميذ في مصر في درس الجغرافيا عما إذا كان حفر القناة «نعمة» أم «نقمة» على مصر التي أصابها الاحتلال الإنجليزي بصدمة كبيرة.
ولكن القرن العشرين شهد تطوراً مثيراً آخر ظهر في آلة الاحتراق الداخلي التي كانت في حاجة ماسة ودائمة إلى النفط بوصفه مصدراً للطاقة، ومن ثم كان اكتشاف أول حقل نفطي في المنطقة في رأس غارب على الشاطئ المصري من البحر الأحمر. ومن ساعتها باتت المنطقة العربية هي والنفط صنوين، وأصبحت القناة هي معبر النفط العربي القادم من منطقة الخليج إلى أوروبا ومناطق الاستهلاك في أميركا الشمالية.
ولما كانت قناة السويس لها سعة بعينها من حيث عبور السفن، وفي وقت من أوقات ارتفاع نجم التعاون العربي في نهاية عقد السبعينات من القرن الماضي، جرى إنشاء خط أنابيب «السميد» بالتعاون بين مصر والسعودية والإمارات وقطر والكويت، لكي يحمل النفط العربي من سفنه القادمة إلى ميناء العين السخنة على خليج السويس إلى سفن أخرى تنتظره على شاطئ البحر الأبيض المتوسط لكي يصل إلى مستهلكيه. ولحسن الحظ فإن هذه النوعية من التعاون العربي صمدت للاختلافات السياسية والأزمات العربية المعتادة، ولا حتى الحروب التي جرت منعت الفوائد التي قدمتها القناة وخط الأنابيب للأطراف المعنية بنقل الطاقة. وعندما عزمت مصر على توسيع القناة وتعميقها مؤخراً بإقامة فرع آخر يسمح بالعبور المتوازي للقناة، فإن الدول العربية، خاصة الإمارات العربية، كانت في طليعة من ساعدوا في إنجاز المشروع في سرعة قياسية.
ورغم أن العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين لم يكن رحيماً بأمة العرب، فإن النصف الثاني منه شهد واحداً من أهم التطورات الجيو اقتصادية، وفوقها جيو سياسية في المنطقة، عندما جرى من ناحية تخطيط الحدود البحرية بين مصر والسعودية، ومن ناحية أخرى بين مصر وقبرص. هذه الخطوة فتحت الأبواب على مصراعيها لمجموعة من التطورات المثيرة في المنطقة كلها، كان أولها اكتشافات الغاز الكبيرة في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط على الشواطئ المصرية والفلسطينية والقبرصية والإسرائيلية واللبنانية. وثانيها أن البحر الأحمر بات من أهم المناطق التي تظهر فيها عمليات الإصلاح الاقتصادي في السعودية ومصر، وبينما يعني ذلك في الأولى تنويع مصادر الدخل من النفط إلى مصادر أخرى غير نفطية في السياحة والتجارة والمواصلات؛ فإنه كان يعني في الثانية عملية انتقال تاريخية من النهر (النيل) إلى ساحل البحر الأحمر الذي مد المجال الاقتصادي المصري إلى منتصف البحر، وأعطى انتعاشاً اقتصادياً كبيراً لمدن حلايب وشلاتين ومرسى علم والقصير وسفاجا والغردقة والزعفرانة والعين السخنة حتى السويس. الخلاصة أنه تدريجياً لم يعد البحر الأحمر مجرد مجرى مائي يصل بين المحيط الهندي والبحر الأبيض المتوسط، وإنما أصبح منطقة اقتصادية واعدة يمكنها أن تجعل عملياً خط المنتصف البحري بين مصر والسعودية جسر عبور بين البلدين. ولعل هذا التطور الجيو – اقتصادي كان هو ما جعل لازماً تكوين رابطة سياسية وأمنية بين الدول المتشاطئة للبحر يجري بينها اجتماعات دورية وتنسيقية تضم كلا من السعودية ومصر والأردن والصومال والسودان وجيبوتي واليمن.
تطورات مماثلة جرت في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط، فقد نتج عن تخطيط الحدود البحرية بين مصر وقبرص تهافت كبير من قبل شركات النفط والغاز العالمية للبحث في المنطقة نجم عنه اكتشافات مهمة، أو الإعلان عن اكتشافات سابقة، وخلق فرص كبيرة للتعاون ظهرت في إنشاء منتدى شرق البحر المتوسط الذي يضم مصر وفلسطين والأردن وإسرائيل وقبرص واليونان وإيطاليا، وهو منتدى يضم وزراء البترول والنفط من أجل التعاون والتنسيق في قائمة طويلة من الموضوعات التي تخص نقل وتسييل الغاز وتصديره. وفي هذا التجمع برزت مصر، ليس فقط لأن برها وبحرها باتا يحتويان على كميات كبيرة من الغاز، وإنما لأنها من ناحية أخرى تشكل أكبر سوق لاستهلاك الطاقة بحكم عدد سكانها الذي يتجاوز 100 مليون نسمة، وصناعاتها العالية الاستهلاك للطاقة مثل الأسمدة والألمنيوم والإسمنت والحديد والصلب وغيرها، ومن ناحية ثالثة فإنها تمتلك مركزين لصناعة تسييل الغاز في دمياط وإدكو ومعها موانئ قادرة على التصدير ليس فقط للغاز المصري، وإنما أيضا لغاز الدول الأخرى، ومن ناحية رابعة فمصر تملك شركة أنابيب لنقل الغاز إلى الأردن وإسرائيل مع إمكانيات لنقله إلى لبنان وسوريا عندما تكون الظروف مناسبة. لقد أدت هذه التطورات، مع القرارات الاقتصادية الشجاعة برفع الدعم عن الطاقة عموماً، إلى خروج الاقتصاد المصري من حالة الأزمة التي دخل فيها مع مطلع العقد وحدوث الثورات المصرية المتعاقبة مع الإشارة إلى مستقبل واعد.
السؤال الآن هو: هل توجد إمكانية لاستثمار هذه التطورات الجيو اقتصادية المثيرة في البحرين الأحمر والأبيض، خاصة أنها ترتبط بتغيرات سياسية إصلاحية لا تقل إثارة، تجري في السعودية ومصر؟ الثابت أن الرؤيتين للتطور المصري والسعودي خلال المرحلة المقبلة (2030) تضعان هذا الارتباط في حسبانهما، فالرؤية السعودية تعتبر المملكة دولة متوسطية أما الرؤية المصرية فإن واحدة من أهم ركائزها تقوم على انتقال واسع من «النهر إلى البحر» ومن دولة نهرية على مدى سبعة آلاف عام سابقة إلى دولة بحرية على مدى السبعة آلاف عام المقبلة! التوجهات الاستراتيجية والرؤى لدى البلدين تجعلان التفكير في ذلك مشروعاً، والأمر ليس محض مجموعة من الأحلام، بل إن هناك إدراكاً للعقبات والمعوقات التي تقف أمام مشروع من هذا النوع يقع في مقدمتها الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وما أدركه من تعقيدات كبيرة مؤخرا، وهناك حالة الاندفاع التركية لتهديد قبرص ومناطق أخرى في سوريا، وهناك أن الأوضاع لم تستقر بعد لا في سوريا ولا لبنان. ولكن كل ما جرى من تطورات مثيرة جغرافية أو سياسية تمت دائماً على نار هادئة كما يقال، وكانت نتيجتها حتى الآن هي أنها أتاحت من الفرص أكثر مما عرضت للمخاطر. هذه دعوة للتفكير على أي حال بين المهتمين، من الساسة إلى المفكرين.

المصدر
الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى