كتَـــــاب الموقع

تصفية حساب

عمر أبو القاسم الككلي

سلخنا الآن من عمرينا حوالي تسع وأربعين سنة. لنقل، من باب التقريب والتسوية، خمسين سنة. ولتعميق الإحساس بهوّة الزمن عديمة الرحمة والشرهة، التي تقضم من حياتنا ببطء، ولكن بدأب،  لنقل نصف قرن. مضى نصف قرن منذ أن رأينا بعضنا آخر مرة، وافترقنا مختصمين.

انقطعت أخبارك عني. الواقع، لم أرغب في تقصّي أخبارك. لست أدري إن كنتِ أنتِ أيضا قد اتخذت نفس القرار الصعب (ربما لم يكن صعبا بالنسبة إليك). ولست أدري الآن، بعد نصف قرن، ما إذا كنتِ ما زلت، مثلي، على قيد الحياة. الحقيقة أنني على قيد المعاناة، لا على قيد الحياة أو، بالأحرى، على قيد معاناة الحياة. في حالة ما إذا كنت ما زلت على وجه الأرض، فلست أدري على أي بقعة من هذا الوجه تعيشين. تزوجت؟. أنجبت ولك أحفاد؟. كيف أصبح شكلك وقوامك؟. كنت نحيلة ذات قوام رشيق. لكن (ألا تغضبي من هذا الكلام) لم تكوني طاغية الجمال وفاتنة. كنت ذات رواء ولطافة. كانت أنوثتك مرحة وماكرة. ليس أكثر. بعد افتراقنا بفترة قصيرة كتبت النص التالي:

 

“كنت أطلب نهرا،

                     بداخلي ينتهي،

                                         يرويني،

                                                     يملأني،

                                                                  يجرفني نحوي.

 

كنت أطلب نهرا وكنت أنفث شعرا، قلت، بطيب خاطر الأنهار، تجري نحوي ولهانة.

كنت أطلب نهرا وكنت أنفث شعرا عن الحنين الذي يأكل من القلب، لا تشبعه إلا هدأة في حضن الحبيب.

 

كنت أطلب نهرا.

آه.

                       إني أطلب نهرا.

 

لم تكوني نهرا.

لم تكوني نهرا.

كنت نبعا، نابضا، دافئا، حنونا.

 

لكنني كنت أطلب نهرا، وكنت من زمن يعقب هذا الزمن (تهت عنه، أو، تاه عني).

 

كنت أطلب نهرا،

لكني آثرت الراحة عند النبع قليلا، أزيل وعثاء الرحيل، أمسح عرقا قديما، أهدّئ حرقة طموح مقيم”.

 

لكنني لم أهتدِ إلى النهر المرغوب وتخليت، منذ زمن طويل، عن البحث عنه.

 

نحن الأدباء (رجالا ونساء) نتمتع بميزة حصرية. وهي القدرة على “التشفي” كتابة ممن كانت لدينا بهم علاقة، ثم هجرونا أو هجرناهم.

يقول ابن زيدون هاجيا ولادة بعد انقطاع علاقتهما بأنها:

 

“أكلٌ شهيٌّ أصبْنَا منْ أطايبِهِ بَعْضاً وبَعْضاً صَفَحْنَا عَنهُ للفَارِ”

 

لأن الشخص الذي ارتمت في أحضانه ولادة بعد ابن زيدون هو ابن عبدوس الملقب بالفأر.

 

قد تتصورين، ويتصور غيرك، أنني أنتقم منك وأهجوك على غرار ابن زيدون (ربما لم أفعل ذلك لأنني لم أصب من أطايبك شيئا، ولا أريد أن أدعي ما لم يقع). لكن أحب أن أؤكد لك، أو لغيرك، وبعد نصف قرن من النهش في عمرينا، أنه لم يكن هدفي “الانتقام” منك. ربما الأقرب إلى الواقع أن قصدي كان “تصفية حساب”.  بالمعنى التجاري. حين يقرر شريكان في مشروع تجاري الانفصال عن بعضيهما و”تصفية” الأوضاع المالية للمشروع. حيث يتقاسمان التبعات حسب مساهمة كل منهما.

الاختلاف، أنك لم تطلعي على جرد الحساب الذي قدمته أنا. أعترف أن هذا حق لم تتمكني من ممارسته. إذ لم تطلعي عليه ولم يتم بناء على اتفاق. لكن لا أظن أني ظلمتك. ربما لم أنصفك كما ترغبين. إلا أنني، حسب تصوري، لم أظلمك. لأنني كنت من فترة مبكرة أدرب نفسي على أن أكون موضوعيا ومنصفا، إضافة إلى أنني كنت أتصدى، بضراوة، لمشاعر الحقد والكراهية في نفسي.

 

لذا قلت في نص آخر بصددك:

 

“مريومة التي أعرف، امرأة

لها ما للنساء من شهوات

تؤمن بالعصافير والعشب

وتحتكم لنزوة الريح.

 

صادفتها وكانت كعصفور أوهن جناحه صقيع عنيد

اغتبطت، لما أن باغتتها شمسي، بالدفء البديع

رشت في القلب زقزقة حميمة وعبيرا

وانسابت مع الريح

 

وانسابت مع الروح”.

 

قد لا ترين أيضا أن هذا النص ينصفك. لكنه، مرة أخرى، لا يجور عليك.

 

لم تكوني شخصية عادية (أنا أيضا لم أكن شخصية عادية، ينبغي أن تتذكري. وإلا فما الذي جذبك إليَّ؟!). كنتِ شخصية غامضة. ولم أكن فضوليا كثير الأسئلة.

حين كنا نسير معا في شوارع طرابلس، وهو أمر لم يكن لا يثير الانتباه حينها، كنت تشرعين في البكاء. تنهمر دموعك دون نشيج. لم يكن سبب بكائك ظاهرا، وكنت أحب أن أترك الحزانى لحزنهم، لذا لم أكن أسألك عن سبب بكائك. ربما سألتك ولم تجيبي. لذا لم ألح. ذات مرة منحتك منديلا نظيفا كي تمسحي فيه دموعك. (كنت أحاول حينها الاحتفاظ بمنديل نظيف). اليوم التالي أعدته إلي مغسولا ومكويا، ومعطرا. تغلغل العطر في روحي. ما زال حتى الآن في ذاكرتي وأنفي. كان الطاغي فيه عبق المشمش. أحب عبق المشمش. يتحدث محمود درويش عن “امرأة تدخل الأربعين بكامل مشمشها”. إذا كنت ما زلت على قيد الحياة فقد خلفت الأربعين وراءك مسافة طويلة. ما الذي بقي لك من مشمشك؟!. وماذا بقي لي من رواء أية فاكهة ترغبين تشبيهي بها (حتى التين الشوكي)؟.

تجولنا كثيرا في شوارع طرابلس ليلا. كنا نسير مسافات طويلة. وكنت تضحكين كثيرا وتتكلمين كثيرا وتبكين كثيرا. وقد سجلت ذلك في أحد النصوص الشعرية التي كتبتها عنك. أقصد عن علاقتنا:


“في الطرقات المغسولة بالكآبة والمطر،

تحت شحوب الأضواء:

تسكعنا متآلفين،

كعصفورين أنهكهما عنت السفر.

وفي الأزقة الفاقدة النور،

سرنا متخاصرين،

وتبادلنا الشجا والقبل..

ضحكنا مغافلين حزننا،

وحين انتباهه:

تجهش مريومة بالصمت و الدمع،

ويجهش خاطري بالوجع والانكسار”.

 

لم تكن محاولاتنا التهرب من حزننا تنطلي عليه. لذا كان يعابثنا ويبرز لنا عند زوايا ما كنا نتوقع بروزه فيها.

 

لا أخفي عليك، حاولت التخلص من الأشياء المادية التي تذكرني بك. مثلا: مزقت الرسالة أو الرسالتين اللتين كتبتهما لي. في إحداهما تتناولين مسألة الذكرى وتعارضين القول الشائع أن “الذكرى ناقوس يدق في عالم النسيان”. كانت حجتك أن الناقوس نحن الذين نشده وندقه عندما نريد. أما الذكرى فتفاجئنا على غفلة منا. أعجبني هذا الحس التأملي. أيضا مزقت صورتك التي كنت أعطيتني إياها وكتبت على ظهرها إهداء لم أعد أذكره.

 

مع ذلك، لم تغيبي عن ذاكرتي، خلال نصف قرن.

 

حاولت مرارا أن أصفي حسابي معك. قلت في نص شعري يدور حولك:

 

“أعترف الآن: في زمن الوحشة انتشلتني مريومة من وهدة الجنون المقيت وأسرت بي إلى تخوم الجنون الحميم، وانقشعت

دون الولوج”

 

قد يأتي ناقد متحذلق فيعقد صلة بين “الولوج” و “الإيلاج”. كلاهما لم يحدثا.

 

في نص آخر قلت:

“الآن أديت ما في رقبتي من دين. فوفيت مريومة حقها ومننت عليها وأشعت ذكرها في العالمين، وما لها في قابل إبداعنا من نصيب. ولولا كلمة سبقت لزرعنا ذكرها في كل أثر”.

 

دائما، في سياق إنصافك، كنت أحاول أن أنصف نفسي (فالإنصاف لا يتجه إلى الآخر فقط). في أحد النصوص قلت:

 

“تلك مريومة،

تنأى مثلما الأمن،

مخلفة في القلب دفء العطر والبسمات،

صاهلة في براح الذاكرة بلا لجام،

مثيرة لسع الحنين وعواصف الاشتهاء.

ومريومة،

التي اغتسلت في أنهار وداعتي وغادرت:

تعلم الآن،

أنها حبلى بلعنة الحنين إليَّ،

وأن وجهي يقتحم وحدتها:

مشعا كاللون البرتقالي،

أليفا كالحزن و الكآبة،

وديعا،

متشامخا كالعيون العسلية ،

وعبثا تحاول إخماد نيران حبي!”

  

في مقال لي عن العلاقات الغرامية كان لابد أن أذكرك. قلت:

 

” أهم علاقة حب أثرت في حياتي حدثت وأنا في حوالي الثامنة عشر. كانت الفتاة هي التي قامت بالمبادرة وأدارت دفة العلاقة وسط خضم وجلي وارتباكي واضطرابي. كانت مرهفة وصبورة وتمتلك قدرة على التغلغل الناعم، وكانت متحررة تحررا عفويا لا ادعاء ولا تعمد فيه.

مع ذلك، أو ربما بسبب ذلك، لم أستطع الاحتفاظ بالعلاقة طويلا. يبدو أنها يئست مني. ربما لأنها لم تستطع تحويلي إلى شيء في ذاتي.

وأظن أن هذه العلاقة أضرت بي أكثر مما أفادتني. لأن الفتاة كانت نموذجا نادرا حينها (بداية سبعينيات القرن الماضي) وجعلتني أطمح، بعد انفصام علاقتنا، إلى أن تكون علاقاتي المقبلة مع فتيات في مستوى انفتاحها وتقدمها، على الأقل. لم أعد أرضى بما دون ذلك.

لكن، للأسف، لم يصادف أن التقيت بالمثال المبتغى”.

في السجن حكيت عنك. تحدثت عن علاقتنا بالتفصيل المتأني. مرة قال لي صديق مازحا: “لا أريد أن أسألك قبلتها أم لا. لكن سأسألك هل قبلتك؟!”. وحين قلت بعد ذلك وفي تفصيل سردي أنني قبلتك، ضحك المستمعون وأخذوا يهنئون بعضهم وقاموا بتوزيع ما بقي لديهم من شاي احتفاء بالحدث الرائع.

رويت كيف أننا عندما كنا نسير معا كنت تطلبين مني أحيانا أن أضع يدي على كتفيك. فأضعها. ثم تطلبين إبعادها. فأبعدها. أنت مزاجية، وكنت أُحمِّل هذا على تقلب مزاجك. ذات مرة قلت لي أنه ليس من المعقول أن تظلي تطلبين مني أن أضع يدي وأن أبعدها. ينبغي أن أفهم ذلك بنفسي. حين ندخل زقاقا مظلما أضع يدي. وحين نخرج إلى شارع مضاء أبعدها!.

كان الظلام حليفنا، والنور عدونا.

لكنني لم أعرف كيف أستفيد من هذا الحليف!.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى