مقالات مختارة

بوتين يدفع أميركا حيث يريد أن تكون

فيونا هيل

كنا نتوقع حدوث ذلك.

«جورج، عليك أن تفهم أن أوكرانيا ليست حتى دولة، فجزء من أرضها في أوروبا الشرقية، وتم منح الجزء الأكبر منها لنا». كانت تلك هي الكلمات المشؤومة لفلاديمير بوتين، الرئيس الروسي، للرئيس جورج بوش الابن في بوخارست برومانيا خلال قمة حلف شمال الأطلسي في أبريل (نيسان) 2008.

كان بوتين غاضباً بشدة حيث كان حلف شمال الأطلسي قد أعلن لتوّه عن أن كل من أوكرانيا وجورجيا ستنضمان إلى التحالف في النهاية. وكانت تلك صيغة وسط لتهدئة مخاوف حلفائنا الأوروبيين، وهو وعد واضح بالانضمام إلى الكتلة، لكن من دون إطار زمني محدد للعضوية.

في ذلك الوقت كنت مسؤولة لشؤون روسيا وأوراسيا في الاستخبارات القومية، وضمن فريق يزود بوش بالمعلومات، وقد حذرناه من أن بوتين سوف يعد الخطوات باتجاه تقريب أوكرانيا وجورجيا إلى حلف شمال الأطلسي تحركاً استفزازياً من المرجح أن يدفع باتجاه عمل عسكري روسي وقائي. مع ذلك في النهاية لم يتم الالتفات إلى تلك التحذيرات.
في غضون أربعة أشهر، وتحديداً في أغسطس (آب) 2008 غَزَت روسيا جورجيا. تلقت أوكرانيا رسالة روسيا بشكل واضح، حيث تراجعت عن طلبها الحصول على عضوية حلف شمال الأطلسي خلال السنوات الكثيرة المقبلة، لكن في عام 2014 أرادت أوكرانيا التوقيع على اتفاق ارتباط مع الاتحاد الأوروبي، اعتقاداً منها أن ذلك قد يكون طريقاً أكثر أمناً باتجاه الغرب. وجّهت موسكو ضربة أخرى، حيث اتهمت أوكرانيا بالسعي وراء الدخول إلى حلف شمال الأطلسي من باب خلفي، وضمّت شبه جزيرة القرم في أوكرانيا، وبدأت حرباً مستمرة بالوكالة في منطقة دونباس جنوب شرق أوكرانيا. شجّعت ردود فعل الغرب الصامتة تجاه عمليتي الغزو في 2008 و2014 بوتين.
كان هدف بوتين هذه المرة أكبر من إغلاق «الباب المفتوح» لحلف شمال الأطلسي أمام أوكرانيا، والاستيلاء على المزيد من الأراضي، بل أراد طرد الولايات المتحدة الأميركية من أوروبا. وكما كان ليقولها: «وداعاً أميركا، لا تصطدمي بالباب وأنت في طريقك إلى الخارج».

كما رأيت خلال العقدين الماضيين من ملاحظة بوتين وتحليل تحركاته، كانت أفعاله ذات عزم، وكان اختياره لهذه اللحظة لتنفيذ الهجوم في أوكرانيا وأوروبا مقصوداً تماماً. إنه لديه هوس شخصي بالتاريخ والذكريات السنوية، فتاريخ ديسمبر (كانون الأول) 2021 كان يمثل الذكرى الثلاثين لتفكيك الاتحاد السوفياتي، عندما خسرت روسيا موقعها المهيمن في أوروبا. يريد بوتين أن تشعر الولايات المتحدة الأميركية بمرارة الدواء نفسه الذي تجرعته روسيا خلال حقبة التسعينات، ويعتقد أن الولايات المتحدة الأميركية حالياً في المأزق نفسه الذي كانت فيه روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، فهي ضعيفة بشدة على الجبهة الداخلية، وفي موقف متراجع في الخارج. إنه يعتقد أيضاً أن حلف شمال الأطلسي ليس أكثر من امتداد للولايات المتحدة، لذا عندما يتعلق الأمر بالتحالف، تكون كل تحركات موسكو موجهة نحو واشنطن.

خلال حقبة التسعينات، أجبرت الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي روسيا على سحب فلول الجيش السوفياتي من قواعدها في أوروبا الشرقية، وألمانيا، ودول البلطيق، ويريد بوتين أن تعاني الولايات المتحدة بطريقة مماثلة. من منظور روسيا، تمثل المتاعب المريرة الداخلية التي تعاني منها أميركا بعد أربع سنوات من رئاسة دونالد ترمب، والفجوات التي تسبب فيها مع حلفاء الولايات المتحدة، والانسحاب الأميركي المندفع من أفغانستان، نقاط ضعف. إذا ضغطت روسيا بقوة كافية، يأمل بوتين أن يتمكن من عقد اتفاق أمني جديد مع حلف شمال الأطلسي وأوروبا لتفادي صراع نهايته مفتوحة، ثم سيتعين على أميركا المغادرة مع قواتها وصواريخها.
تعد أوكرانيا هدفاً لروسيا ومصدر قوة وتأثير ضد الولايات المتحدة. تحرك روسيا القوات إلى حدود أوكرانيا، وتشنّ ألعاب حرب، وطلبت من خلال وثائق رسمية حديثة ضمانات حازمة بألا تصبح أوكرانيا عضواً في حلف شمال الأطلسي، وأن ينسحب الحلف من المواقع التي سيطر عليها بعد عام 1997، وكذلك أن تسحب أميركا قواتها وأسلحتها بما فيها الصواريخ النووية.

يؤكد ممثلون روس أن موسكو «لا تحتاج إلى سلام بأي ثمن» في أوروبا، ويقترح بعض السياسيين الروس إمكانية القيام بضربة وقائية ضد أهداف تابعة لحلف شمال الأطلسي لضمان جديتهم، وتلبية طلبات موسكو. اجتمع مسؤولون أميركيون لأسابيع لفهم الوثائق الرسمية التي تتضمن طلبات روسيا، والتعليق المتناقض، والنظر في كيفية ردع بوتين في أوكرانيا، والتحدث بشأن جدوله الزمني.

إن بوتين سيد التحريض والاستدراج القسري، فهو يصطنع أزمة على نحو يمكّنه من الفوز أياً كان ما يفعله أي شخص آخر. تمثل التهديدات والوعود شيئاً واحداً، حيث يستطيع بوتين غزو أوكرانيا مجدداً، أو يترك الأمور على ما هي عليه، ويوطد وضع الأرض التي تسيطر عليها روسياً فعلياً في إقليم القرم ودونباس. إنه يستطيع إثارة الاضطرابات في اليابان، وإرسال صواريخ فرط الصوتية إلى كوبا وفنزويلا، أو لا يفعل، إذا سارت الأمور كما يرغب في أوروبا.
وعد بايدن بأن روسيا «سوف تدفع ثمناً باهظاً» في حال عبور أي قوات روسية حدود أوكرانيا. إذا غزا بوتين أوكرانيا دون أي عقاب من جانب الغرب وباقي المجتمع الدولي، سوى العقوبات المالية، سوف يكون قد جعل من الأمر سابقة يمكن أن تكررها دول أخرى. لقد وضع بوتين بالفعل فرض المزيد من العقوبات المالية الأميركية في حساباته، لكنه يفترض تردد بعض حلفاء حلف شمال الأطلسي في فرض مثل تلك العقوبات. ربما يوقفه استهجان الأمم المتحدة، والمعارضة الدولية القوية واسعة النطاق، وإجراءات من جانب دول خارج أوروبا تتجه نحو التراجع في علاقاتها بروسيا.

ينبغي أن تكون لعبة أميركا الأطول أمداً هي تكوين جبهة متحدة مع حلفائها الأوروبيين وحشد دعم أكبر، وإلا سوف تمثل تلك الملحمة بداية نهاية الوجود العسكري الأميركي في أوروبا.

* زميلة بارزة في مركز «بروكينغز إنستيتيوشين»، ومسؤولة سابقة في الاستخبارات لشؤون روسيا وأوراسيا، وعملت في مجلس الأمن القومي خلال إدارة الرئيس دونالد ترمب
* خدمة «نيويوك تايمز»

المصدر
الشرق الأوسط
زر الذهاب إلى الأعلى