كتَـــــاب الموقع

المفتي الطّاعن في الجبت

رفعت محمد

تكمن المشكلة الأساسية للفئة العظمى من الوعاظ وأصحاب الفتاوى في بلادنا بأخذهم جانب الحكام وأصحاب الأمر، ومحاربتهم للمحكومين، وهي مسألة لفت إليها عالم الاجتماع العراقي علي الوردي في كتابه “وعاظ السلاطين”، ولخصها مبرزا جانب التناقض في تناولهم للأمور من دفاعهم المستميت عن أعمال الحكام حتى في ظلمهم، والبحث عن تبريرات تتعلق بالاجتهاد الذي لا بد أن تشوبه الأخطاء، مقابل التعصب في إدانة أعمال المحكومين، وإنذارهم بعقاب الله الذي لا رادّ له.
وإن كان تأثير أولئك ينحصر سابقا على فئة محدودة ومحصورة جغرافيا، بحكم البطء في إيصال المعلومة، فإن الأمر مختلف تماما الآن مع الثورة التكنولوجية الهائلة في عالم الاتصال، ما ضاعف الخطر الذي يمكن أن يتسببوا به، عبر ظهورهم على وسائل الإعلام المختلفة، ونفث السموم أمام الملايين، مؤتمرين بأوامر من استأجرهم.. ودفع لهم، يميلون بمبادئهم ما مالت رياح أهوائه، ويتلونون بحسب ما يقتضيه تغير مصالحه، وتبدل سياساته، دون أدنى مراعاة لما تُحدثه فتاوى الـ”ديلفري” التي يجهزونها على نار التعصب والتزمت، من أثر مدمّر على عقول مئات الآلاف ممن استسهلوا الانجرار وراء أي فعل يضفي عليه المفتي شرعية وإن كانت ناقصة.

لا ينفك المفتي المعزول في ليبيا الصادق الغرياني يخرج علينا كل فترة بفتوى تجبّ ما قبلها في مغالاتها وتعصبها ودعوتها لسفك الدم الليبي استجابة لولاة الأمر الذين موّلوا له منبرا بحجم قناة، يطل منها ليتوعد ويهدد ويدعو الليبيين للقتال حتى آخر واحد فيهم، وهو البعيد في مأمنه، يتلقى كل يوم تعليمات اليوم التالي بناء على متغيرات المصالح الآنية شديدة التعقيد.
المتابع لبرنامج الغرياني من على منبره “قناته”، يدرك جيدا كيف يتحول المفتي إلى محلل سياسي في لحظات، دون أن ينجح الزي التقليدي الذي يحرص على ارتدائه مستميلا فيه عاطفة الكثيرين وأهوائهم، في إخفاء ما وراء الفتاوى التي يطلقها ذات اليمين وذات الشمال، كرشاش ذاتي الإطلاق، خرج عن سيطرة حامله، وبات يشكل خطرا حتى عليه نفسه.

ولأن عادته المواربة، وإلباس الحقائق رداء الوهم، شأنه شأن منظري جماعة الأخوان المسلمين في احترافهم تطبيق مبدأ التقية السياسية وبراعتهم الشديدة في ذلك، فإن “المفتي المعزول” يحاول التمويه في محاربته أي شكل من أشكال تطبيق القانون وقيام الدولة بمؤسساتها، وأهمها مؤسستي الجيش والشرطة،إذ يحرف النظر تجاه المشير خليفة حفتر، ليوجّه إلى محاربته، مدّعيا أن للأخير مطامع شخصية في عسكرة الدولة، فلا تمر مناسبة يحقق فيها الجيش الوطني انتصارا جديدا على قوى الظلام في ليبيا، إلا ويبري المفتي قلمه ليخط فتوى تكفير بحق رجالات الجيش، إحقاقا لثأر شخصي له ولمن يحرك خيوطه من وراء ستار.

آخر فتاوى الغرياني سجل فيها ابتكارا لم يسبقه إليه أحد، فقد أفتى بحرمة تكرار الحج بزعم أن ذلك قد يرفد السعودية بالمال الذي يمكن أن تدعم به الجيش الوطني بقيادة حفتر، وهذه حجة تخفي وراءها ما تخفيه، يضرب بها عصفورين بحجر، فهو يريد تكريس قطيعة مع المملكة السعودية، لحساب منافستها التي يعيش المفتي بنعيم مالها، فيحاول الترويج لسياساتها الداعمة للإرهاب من خلال تمويل الجماعات المسلحة في ليبيا والتي كانت حتى وقت قريب هدفا لانتقادات المفتي ذاته، ما يسمُ المفتي بوسم “البراغماتي ذي الجبّة”، متلونا بحسب ما تقتضيه مصلحة داعميه، سائرا على نهج “عدو عدوي صديقي” حتى لو كان عدو الأمس.

فتوى الغرياني، لاقت رواجا من منبر آخر يأتمر بأوامر السيّد ذاته، ويعيش في نعيم أخضره، إذ انبرت إحدى نجماته “مذيعاته”، للدفاع عن الفتوى، وساقت شاهدا على صحتها ودقتها واستشرافها المستقبل، بمكالمة الرئيس الأميركي ترامب الداعمة لحفتر في محاربته الإرهاب، فغرّدت وكأن لسان حالها يقول: أرأيتم.. مفتينا ضليع في السياسة، وخبير بأحابيلها.
اللافت، في موقف المذيعة التي سبق وذهبت بعيدا في موالاتها لأرباب نعمتها، تجاهلها لفتاوى سابقة صدرت عن المفتي يدافع فيها عن الجماعات المتطرفة الإرهابية، وتفوح منها رائحة الخطاب التكفيري بصورة تزكم الأنوف، فهل يعقل أنها لم تقرأ فتواه باعتبار قتلى أنصار الشريعة، التنظيم الإرهابي، شهداء؟! وإن كانت تراهن في ذلك على ذاكرة متابعيها، الذين تفخر بتجاوزهم العشرة ملايين، فكيف يمكن أن تبرر الفتوى الطازجة للمفتي والتي أباح فيها قتل الإعلاميين، زملائها في المهنة، بدعوى أن لهم دور في المعارك شأنهم شأن المقاتلين. أظنها تشاطر المفتي رأيه السابق الذي أصدره كحكم قاطع لا رادّ له على كل من يرفض التدخل القطري بالقول “من لا يشكر قطر فهو أقل من الكلب”.

يقول الفيلسوف الفرنسي فرانس بيكون: “ليس أخطر على دولة ما من الخلط بين المكر والحكمة”، وأظن الوعاظ وأصحاب الفتاوى في زماننا، وربما في أزمان سابقة، أقرب مثال على تجسيد هذه الحالة، إذ أكثر ما يثير الاستغراب أن معظمهم أبعد ما يكون عما ينصح به، فهم إذ يدعون الناس لتنظيف قلوبهم من أدران الحسد والشهوة والأنانية وحب المال، نراهم أكثر الناس حسدا وشهوة وأنانية، غارقين برزم البترودولار، أما التقوى عندهم فـ”تتلوى ما بين البلوى والبلوى”، بحسب وصف الشاعر العراقي أحمد مطر في قصيدته “المفتي” والتي جسّد فيها صورة للمفتي تنطبق على كل زمان ومكان، ولعل خلاصة القول ما ذهب إليه في مقطعها الأخير:

«هُوَ قد أَفتى
وأنا أُفتي
العلَّةُ في سُوءِ البذْرةِ
العِلّةُ لَيسَتْ في النَّبْتِ
وَالقُبْحُ بِأخْيلَةِ الناحِتِ
لَيسَ القُبحُ بطينِ النَّحتِ
وَالقاتِلُ مَن يَضَعُ الفَتوى
بالقَتْلِ..
وَليسَ المُستفتي
وَعَلَيهِ.. سَنَغدو أنعاماً
بَينَ سواطيرِ الأَحكامِ
وَبينَ بَساطيرِ الحُكّامْ
وَسَيكفُرُ حتّى الإسلامْ
إن لَمْ يُلجَمْ هذا المُفتي».

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى