كتَـــــاب الموقع

المضمون في القصة والرواية

عمر أبو القاسم الككلي

يتكون قوام العمل السردي الإبداعي (القصة والرواية)* من أربعة عناصر بانية: 1- الموضوع، وهو الحكاية التي يدور على محورها العمل وتأخذ عند تلخيصها مساراً خطياً. 2- الحبكة، وهي أسلوب ترتيب وقائع الموضوع، حيث يمكن ألا ياخذ شكلاً خطياً. 3- الشكل الذي تُمثّل الحبكة عموده الفقري، إلا أنها ليست هو، لأنه يضم إلى جانبها، المعمار القصصي أو الروائي، المتمثل في تقسيم الفصول والفقرات، والحوار، والأداء اللغوي، وحتى أدوات الترقيم والبياض الذي يمكن أن يتعمد المؤلف تركه. 4- المضمون.

ومن بين هذه العناصر الأربعة فإن الأخير منها ملتبس وغامض، مثلما أرى. فالشكل هو أول ما نلتقيه في العمل. لكنه لا يتكشف أمامنا، خصوصاً في الرواية، دفعة واحدة، وإنما يتفتح أمامنا تدريجياً. وترى النظرية الواقعية في الأدب أن المضمون هو الذي يُحدد الشكل. لكنهما لا يتطابقان، بل يتمتعان باستقلال نسبي يمكِّن المضمون من تحديد الشكل تحديداً عاماً، ويمكن في النفس الوقت، الشكل من إبراز المضمون. أي أنهما يدخلان في علاقة تفاعلية جدلية.

إلّا أنّ سؤالنا المحوري هنا هو: ما هو المضمون؟

ليس المضمون هو الفكرة التي يمكن أن يستخلصها القارئ من عمل ما. ذلك أن الفكرة المُستشفّة من العمل يمكن أن تختلف، تباعداً وتقارباً، لدى القراء المختلفين، ولا يمكن أن تتطابق، أو نادراً ما تتطابق، لدى قارئين.

وما دمنا قد سلّمنا أن المضمون هو ما يُحدد الشكل، فلا بد، إذن، من أن يكون وجوده موضوعياً ماثلاً في صميم العمل، وألّا يختلف عليه القراء.

لكن الأمر ليس بهذا اليُسر. فتحديد مضمون قصة أو رواية يتطلب اجتهاداً من نوع خاص.

هذا المقال يفترض أن المضمون، في سياق اهتمامنا، هو منظومة العلاقات الدائرة داخل العمل**. وهذه العلاقات تتميز في طائفتين: 1- علاقات جماعية، في حالة كون شخصيات العمل من فئة أو طبقة اجتماعية واحدة، وعلاقات اجتماعية، في حالة انتماء شخصيات العمل إلى طبقات مختلفة. 2- علاقة فردية، أي علاقة الفرد بذاته، إذا كان محور العمل شخصاً فرداً. وهذا أمر بالغ الندرة، ذلك أنه، مهما تطرفت درجة الفردانية، فلا بد أن تكون له علاقات ما بمحيطه الاجتماعي.

*
سنُطبّق فرضيتنا هذه على رواية نجيب محفوظ “ميرامار” لأنها، في الحقيقة، تستجيب لهذه الفرضية. وسنُقدّم لها تلخيصاً*** مقتضباً، مُخلاً بطبيعة الحال، لكنه وافٍ بغرض هذا المقال.

“ميرامار” اسم بنسيون في الإسكندرية تملكه عجوز يونانية، يلتقي فيه خمسة رجال ينتمون إلى طبقات وشرائح مختلفة من المجتمع المصري. عامر وجدي الوفدي السابق الذي دخل مرحلة الشيخوخة وكان يتردد على هذا البنسيون أيام مجده الغابر وعاد إليه لـ “يجتر ذكرياته، يترحم على الماضي. ولكنه يرنو إلى الحاضر الجديد في مودة وحب”. طلبة مرزوق “إقطاعي من رجال السراي، وضعت أمواله تحت الحراسة. يبغض الجديد”. ثم حسني علام “شاب ضائع فقد أرستقراطيته الماضية ولم يتبقَ له إلا بضعة أفدنة في حد الملكة الجديدة” وهو بوهيمي عابث. هناك أيضاً منصور باهي “ثوري مرتد. خان مبدأه [… وتخلى] عن زملائه [بل قام] بتسليمهم كذلك”. “يسقط في فراغ، ويتطلع عبثاً إلى أمل، إلى هدف. فلا يجد أمامه غير الجريمة. وتكون كذلك جريمة بغير معنى. بغير تحقق أقرب إلى الانتحار منها إلى جريمة”. ويقدم على البنسيون شخص رابع هو سرحان**** البحيري “شاب من الطبقات الرجعية القديمة. لكنه استطاع بانتهازيته أن يتسلق بعض المواقع الثورية الجديدة”. “ينكشف أمره في سرقة كان يديرها وبعض أصحابه، فيقدم على الانتحار”.

ثلاثة من هؤلاء الخمسة (حسني علام وسرحان البحيري ومنصور باهي) كانوا يسعون إلى كسب وداد زهرة، الفتاة الفلاحة الجذابة، التي فرّت من أسرتها هروباً من زواج سيُفرض عليها. وهم يتنافسون ويتصارعون عليها، كل بطريقته وهدفه المختلف.

يقول العالم مفسراً رمزية زهرة “إنها نحن، أصالتنا، حياتنا، نبض قلوبنا، بحثنا، تطلعنا، مصيرنا”. ويلخص ذلك بوصفها أنها “رمز مصر الباحثة عن سند”. لكنها يمكن أن تكون أيضاً رمزاً للثورة المصرية. كما يمكن أن نرى فيها فتاة جذابة مرغوبة يسعى الرجال إلى التقرب منها إذا وجدت معهم في حيّز واحد. ويمكن أن يكون البنسيون رمزاً لمصر. وكونه يحمل اسماً يونانياً وتملكه وتديره أرملة يونانية مُسنة مات زوجها وهو يقاوم حدثاً من أحداث التارخ المصري “وبقيت هي البقية الباقية للأجنبي” في مصر، يمكن أن يكون إيحاء بأن مصر لم تتخلص من الحضور الأجنبي بالكامل، وإن لم يكن، في هذه الحالة، حضوراً استعمارياً. كما يمكن أن يكون إيحاءً بانفتاح مصر وقدرتها على استيعاب الأجنبي إن كان مسالماً.

ها أننا قد استخلصنا من عنصرين في الرواية عدة رموز وأفكار. وبإمكاننا استخلاص فكرة أخرى من حادثة مهمة من أحداث الرواية، وهي طعن منصور باهي “الثوري المرتد” سرحان البحيري الانتهازي المتسلق بقصد قتله. لكننا نكتشف أن منصور باهي كان يطعن جثماناً، وليس إنساناً حياً، لأن سرحان البحيري انتحر قبل ذلك بقليل. والفكرة التي يمكن استشفافها هنا هي أنه في هذه الحادثة تنبؤ بما ستؤول إليه الثورة المصرية بقيادة جمال عبد الناصر، فكلا الشخصين ينتمي إلى شريحة البرجوازية الصغيرة، التي تعتمد عليها الأنظمة الوطنية، لكن هذه الشريحة، وبالتالي الثورة، منخورة من الداخل. فالشخص المحسوب على النظام الثوري انتهازي متسلق ومجرم. والشخص المناصر لهذا النظام مرتد ومأزوم.

لكن هذا كله لا يُمثّل المضمون، وبالتالي ليس هو ما حدد الشكل.
وإذن، ما هو مضمون رواية “ميرامار” الذي حدد شكلها.

ما حدد شكل الرواية هو منظومة العلاقات بين شخصياتها (بالذات: حسني علام، سرحان البحيري، منصور باهي) وبما أنهم ينتمون إلى مستويات طبقية مختلفة، فالعلاقات بينهم علاقات اجتماعية، وليست جماعية. وإذن يكون مضمون رواية “ميرامار”، من خلال الرؤية التي نطرحها هنا، هو: إعادة ترتيب العلاقات بين طبقات المجتمع المصري بعد 1952. هذا المضمون هو الذي حدد شكل الرواية، دون أن يعني ذلك أن هذا التحديد حتمي. إذ كان يمكن لنجيب محفوظ، أو لغيره، أن يمنح هذا المضمون شكلاً مختلفاً، إلا أن هذا الشكل، في جميع الأحوال، لن يخرج عن أنه تعبير عن منظومة علاقات اجتماعية طبقية.

قد يكون تطبيق فرضيتنا هنا على رواية “ميرامار” لأنها، كما قلنا، تستجيب لهذه الفرضية، تبسيطياً، وقد يكون من العسير، أو حتى من المتعذر، تطبيقها على كثير من الأعمال القصصية والروائية الأخرى، إلا أننا نرى أن هذه الرؤية يمكنها أن تفتح المجال أمام إعادة النظر في مفهوم المضمون وطبيعته في القصة والرواية، على نحو موضوعي علمي.

* يمكن أن يسري هذا على المسرحية أيضاً. لكن مركز اهتمامنا العمل الإبداعي السردي.

** السرحان في العربية أحد أسماء الذئب، ومن المعروف أن نجيب محفوظ درج على منح شخصيات رواياته أسماء تشي بطبيعتهم السلوكية وأبعادهم النفسية.

*** اعتمدنا في هذا التلخيص على: محمود أمين العالم. بداية مرحلة اجتماعية جديدة: بين “ثرثرة على النيل” و”ميرامار”. في: محمود أمين العالم. الأعمال الكاملة. الأعمال النقدية (الجزء الثالث). الهيئة المصرية العامة للكتاب 2019. وكل العبارات المنصصة في التلخيص مأخوذة من المقال المشار إليه.

**** كتبتُ مقالاً يتضمن هذا الطرح بداية الثمانينيات في السجن، مُطبّقاً على نفس الرواية. لكنه هنا مكتوب بشكل مختلف ومطور.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى