كتَـــــاب الموقع

اللغة في طرابلس ووظيفتها في “مرافعة صبراتة”

كارلوس نورينا(1)

ترجمة: عمر أبوالقاسم الككلي

ضمت الإمبراطورية الرومانية، بين حدودها المتباعدة، عدة لغات مختلفة، ولم يكن شمال أفريقيا استثناء. فإلى جانب لغات الأهالي المحليين التي كانت لغة الحديث في طرابلس(2) مكنت السيادة القرطاجية (حوالي 600- 200 ق. م) اللغة البونيقية من أن تكون لغة دارجة، وكانت اللغة اليونانية(3) معروفة. ومن الطبيعي أن الرومان قد جلبوا اللغة اللاتينية مع جحافلهم إلى المنطقة. هذا التعدد اللغوي انعكس في المرافعة(4). فلم يكن أبوليوس(5) يستخدم في مرافعته اللغة كأداة، فقط، بل وأيضا كسلاح ضد خصومه. وقبل أن نتفحص وظيفة اللغة في مرافعة أبوليوس، دعونا نتطرق، بإيجاز، إلى ما نعرفه عن اللغات المختلفة في طرابلس. يمكن، لأغراض عملية، تسمية اللغة الأصلية في شمال أفريقيا اللغة “الليبية”، إلا أنه ما من مصدر قديم يعطي تلك اللغة إسما. وفي الفترة التي حوكم فيها أبوليوس (158 م.) كانت فروع هذه اللغة قد اختزلت إلى عدد محدود من الصيغ وجدت في بعض المخطوطات ولا يوجد، على الإطلاق، دليل على أنها كانت شائعة في الاستخدام العام. ومن ناحية أخرى توجد بعض الدلائل على أن اللغة البونيقية تمكنت من البقاء خلال الحقبة الإمبراطورية كلغة دارجة في شمال أفريقيا. كانت البونيقية لغة سامية وثيقة الصلة بالعبرية التوراتية، وثمة رأي سائد الآن بأنها كانت لغة عامية في طرابلس. ظهرت المخطوطات البونيقية المطولة حوالي نهاية القرن الثاني الميلادي، وثمة مؤشرات على أن البونيقية ظلت، في إحدى صيغها، تكتب (بالحروف اللاتينية) حتى نهاية القرن الرابع. الدلائل على استخدام اللغة اليونانية ضيئلة في أفضل الأحوال، ويبدو أنها ظلت محصورة ضمن نطاق أكثر أفراد الأستقراطية المحلية تعليما من مثل سبتيموس سفيروس من مدينة لبدة الكبرى، إمبراطور روما في الفترة 193-211 م، الذي كان يتحدث البونيقية واللاتينية (وإن بلكنة. قارن: Historia Augusta Sept. Sev. 19.9) واليونانية. وتؤكد مخطوطات تعود إلى سنة 229 م.( CIL. 8.8500) على أن معرفة اليونانية و اللاتينية كانت تعتبر ميزة كبيرة. كانت اللاتينية، بالطبع، لغة التخاطب الرسمي، ومثلما هو مرجح، لغة الثقافة. وأيا كان الأمر، فإنه لمن المستحيل تبين إلى أي مدى حلت اللاتينية محل البونيقية من حيث هي لغة العامة في شمال أفريقيا. قبيل بداية خطبته (فصل 4) يذكر أبوليوس مشاهديه بأنه قد اتهم بتمكنه من اللاتينية واليونانية. ومن الواضح أن أبوليوس فخور بمكتسباته اللغوية: فاقتباس من هوميروس يُقرأ بصوت عال باليونانية يمثل جزءا من رده على التهمة. إلا أن هذا ليس، بأية حال، نهاية مفاخر أبوليوس. ففي وسط استطراد مطول حول إنجازاته في مجال علم الأسماك يشير أبوليوس إلى أنه بصدد الكتابة عن الموضوع في اللاتينية واليونانية (فصل 36). أكثر من ذلك، يعلن أبوليوس أنه يحاول الكتابة بأسلوب أكثر تنظيما ودقة من كتابة أرسطو وأفلاطون. ويبلغ هذا الاستعراض اللغوي ذروته حين يبرز أبوليوس في قاعة المحكمة مجلدا من كتاباته اليونانية في مجال علم الأسماك (فصل 36)، متبوعا بمجموعة من ترجماته اللاتينية. وكي لا يترك مجالا للافتراضات قرأ أبوليوس بصوت مرتفع مقتطفات من العملين. تمكن أبوليوس من اللاتينية جلي لمجرد تقديمه مرافعته باللاتينية، كما أن العدد الهائل من الإحالات إلى المؤلفين الإغريق خلال خطبته تعزز الانطباع بطلاقته في اليونانية. يقوم أبوليوس بعدة إيماءات إلى الموسوعية المعرفية لدى كلاوديوس ماكسيموس(6)، وواضح أن ادعاءات أبوليوس بشأن المكتسبات اللغوية إنما كانت محاولة منه لربط نفسه بالقاضي “المتعلم”. في الواقع كان أبوليوس يسعى بوضوح إلى استثمار انعدام التوازن الفكري والثقافي بين القاضي المتعلم وضحالة متهميه. ذلك أن مهارة أبوليوس في اللغتين تؤدي، كما سنرى، إلى وضع الضعف اللغوي لدى متهميه شديد الجلاء. لا يشن أبوليوس أبدا هجوما شاملا على رثاثة الحصيلة اللغوية لدي متهميه. إلا أنه ما من شك في أن وفرة الإشارات إلى نقص التعامل مع اليونانية (وحتى اللاتينية) لدى خصميه يدل على أن اللغة جزء مهم في خطة أبوليوس القدحية الشاملة. ومرة أخرى يقتطف أبوليوس، في سياق دراسته عن الأسماك (فصل 30) فقرة من فرجيل(7) Vergil ثم يقول لتانونيوس بودنس(8) بأنه سيقتطف فقرات مماثلة من ثيوكريتوس(9) وهوميروس وأورفيوس (10) ومن شعراء الكوميديا والتراجيديا والمؤرخين الأغريقيين إذا أدرك أن تانونيوس لا يمكنه قراءة رسالة بودنتيللا(11) اليونانية. بعد ذلك يتهم أبوليوس متهميه في دفاعه بأنهما زورا رسالة ادعيا أنه هو من كتبها (فصل 87). لقد كان خطأهما الحاسم أنهما كتبا الرسالة بلغة يونانية ركيكة أدنى بكثير من مستوى أبوليوس. أخيرا يلاحظ أبوليوس (فصل 98)، ولعل هذا ألعن ما في الأمر بالنسبة إلى خصميه، أن سِسِنْيوس بودِنس(12) الذي رفعت التهمة باسمه لا يتحدث سوى البونيقية مع النزر اليسير من اليونانية علمته إياه أمه، وهو لا يتحدث اللاتينية. وعندها يعيد أبوليوس إلى الأذهان، باستهوال، كيف أن بودنس بالكاد تمكن من التلعثم ببضعة مقاطع حين سئل من قبل كلاوديوس ماكسيموس. وهكذا نرى أن اللغة تلعب دورا حاسما في دفاع أبوليوس. هي مهمة، لجملة من الأسباب ليس أقلها واقعة أن رسالة بودنتيلا، التي هي أحد الأدلة المادية التي تتعلق بها القضية برمتها، قد كتبت باليونانية (فصل 83). ولأن المعنى الحقيقي لما كتبته بودنتيلا محل جدال، فإن ادعاء أبوليوس بالتفوق اللغوي في اليونانية، وهو الادعاء الذي ما انفك يردده طوال الخطبة، يجعل تفسيره للرسالة حجة موثوقة. إضافة إلى ذلك فإن قدرة بودنتيلا على كتابة رسالة باليونانية تقلل بشكل أكبر من كفاءة متهمي أبوليوس المفترضة في مجال اللغة. وهذا بدوره يتيح لأبوليوس وضع نفسه في مصاف كلاوديوس ماكسيموس الذي يتقن اللغتين ضد متهميه الأميين، وهو الأمر الذي اتخذ منه استراتيجية طوال مرافعته.

(1) Carlos Norena أكاديمي أمريكي متخصص في تاريخ الإمبراطورية الرومانية.
(2) المقصود طرابلس الإقليم الذي يشمل المدن الثلاث: أويا، صبراتة، ولبدة الكبرى.
(3) استخدمنا الصفة: يونانية حين يتعلق الأمر باللغة، و الإغريقية في الحالات الأخرى.
(4) اسم عمل أبوليوس المعني هنا Apology الاعتذار، لكنه معروف أكثر بـ: Apuleius’ defense دفاع أبوليوس، أو:Sabratha’ defense دفاع صبراتة، و اختصارا الدفاع. وقد آثرنا ترجمتها هنا بالمرافعة لأنها دفاع أمام محكمة.
(5) Apuleius Lucius(ولد سنة 123 م) أديب لاتيني من شمال أفريقيا (يعتبره الجزائريون جزائريا والليبيون ليبيا). يعود الفضل للدكتور علي فهمي خشيم في التعريف به منذ فترة مبكرة من النصف الثاني من القرن الماضي وقد ترجم له عدة آثار أبرزها “دفاع صبراتة” و “الجحش الذهبي” التي يعتبرها كثيرون أقدم رواية معروفة.
(6) Claudius Maximus حاكم عموم أفريقيا الرومانية ما بين عامي 155-158. ترأس المحكمة التي نظرت في قضية أبوليوس.
(7) Vergil أو Virgil( 70-19 ق. م) أشهر شعراء الرومان. صاحب ملحمة الإنيادة.
(8) Tannonius Pudens أحد أقارب الأرملة التي تزوجهاابوليوس..
(9) Theocritus (حوالي 310-250 ق. م) شاعر يوناني صور في قصائده حياة الرعاة اليومية.
(10) Orpheus وجد في القرن السابع أو السادس قبل الميلاد وأسس الديانة الأورفيوسية.
(11) Pudentilla الأرملة التي تزوجها أبوليوس.
(12) Sicinius Pudens الربيب الأصغر لأبوليوس. وقد رفعت الدعوى نيابة عنه لأنه قاصر.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى