حياة

القارئ لحظة الكتابة

صديق ثقيل، ومحبب لا مفر منه

خلود الفلاح

يحضر القارئ لحظة الكتابة، ولا أحد يختلف على ذلك، ولكن هذا الحضور قد يكون طاغياً فيأخذ دور الرقيب على ما نكتب، وقد يظل في خلفية المشهد واعتبار ذلك الحضور نوعاً من المشاركة في بناء النص. وهناك من ينفي تفكيره في هذا القارئ لحظة الكتابة، وقد يذهب البعض إلى أبعد من ذلك، ويقر أن هناك من يفكر في القارئ فقط من أجل حصد أكبر عدد من الإعجابات في العالم الافتراضي.

في هذا الاستطلاع.. طرحنا السؤال، إلى أي مدى يشغلك القارئ لحظة الكتابة؟

بناء مصغر

بدأت الروائية الفلسطينية ليانة بدر حديثها بالسؤال، هل يكون الجواب تقليدياً لو قلت إن القارئ سوف يكون في الخلفية دوماً؟ لافتة إلى أنه هناك أولاً وأخيراً، في المبتدأ والخبر، في البداية والنهاية، في النفَس الأول والنفَس الأخير، كل هذا لأن الكتابة هي عملية مشاركة أولاً وأخيراً، لو لم تكن هناك تلك الرغبة العميقة في المشاركة لما كتب الكاتب أو الكاتبة، ولظل الأمر مقتصراً على تداول الأفكار باطنياً وبمعزل عن الجميع.

وبيّنت ليانة بدر أن الكتابة تدور في جوهرها حول عملية بناء عالم مصغر، موازٍ، يخلق صفاته وقواعده وأشكاله بشكل مستقل عن العالم الخارجي الموضوعي، قد يتم تبادل بين العوالم أو القيام بإنشاء جديد ومبتكر لها، لكن القارئ سيظل هناك بشكل من الأشكال، سيظل شريكاً في الكتابة، إنه ظل الكتابة ومن يسبغ عليها ألوانها.

وقال القاصّ العراقي خالد شاطي: في كل مراحل الكتابة، يحضر في ذهني قارئ ضمني، إليه أتوجه بكتابتي، وغايتي إرضاؤه. وعلى الرغم من أن هذا القارئ كائن متخيل، لا وجود له في الواقع، إلا أنه يُمثّلني، أو هو أنا، أو على الأقل هو أنا القارئة، يُمثّل ما أود قراءته أنا بالذات، أو هو باختصار ذوقي أنا وهو، بالطبع، قارئ لا يتسم بالاستاتيكية، بل يمر بأطوار وتحولات متعددة.

وفي المقابل، هناك القارئ الحقيقي، أي الموجود في الواقع من لحم ودم، فإنني أماهي بينه وبين القارئ الضمني، أي أنهما، في نظري، واحد، وبالتالي، فإن القارئ الحقيقي لدي، متخيلٌ أيضاً.

القارئ الرقيب

وتوضح ليانة بدر، أن الكاتب لن يتقدم قيد أنملة أن لم يجد من يتابع عملية تقدمه أو تراجعه، أن لم يكن هناك من يهتم للحركات أو القفلات أو الاستراتيجيات التي يتبعها، فهي عملية أشبه بالشطرنج حين يصبح قرينه الوهمي في اللعب ذلك القارئ الذي سيُظهر استعداده لفهم ومتابعة ومشاطرة من يكتب كل تلك اللمسات والتحركات الصغيرة والكبيرة.

وتحدثت ليانة بدر عن شغف الكتابة وليس الكتابة التقليدية التي يكون عذرها حب الكاتب في الظهور والاستعراض بطريقة ما، واستطردت: أتحدث عن شغف النفس باكتشاف الجديد في هذا العالم، فأي رفيق سوف يكون مصاحباً لمن يكتب أن لم يكن قارئاً على قدر المودة والتقدير؟ هكذا لن يكون للكاتب/ الكاتبة قدر الوحدة إنما قدر المشاركة، وهذا ينبع من أعماق الأعماق مثل نبع صغير لكنه حي، ومتواصل، ومستمر.

من جانبه، أشار خالد شاطي، إلى الحضور الطاغي للقارئ في جميع مراحل الكتابة، ويضيف: هذا القارئ يمارس كل أنواع الرقابة على ما أكتب، وهو دائم الحضور في ذهني، كحضور الرب في ذهن المؤمن، وأعد وجوده ضرورياً للغاية، إلى درجة أن غاية الكتابة تنتفي في غيابه، ولأن هذا، أي غيابه، مستحيل، فلا يمكن فصل فعل الكتابة عن القارئ مطلقاً.

العداوة الخفية

ويذهب الروائي المغربي عبد المجيد سباطة، إلى أن العلاقة بين الكاتب والقارئ جدلية، وقد تحدث عبد الفتاح كيليطو مجازياً عن وجود عداوة خفية بينهما، موضحا: الكاتب يتقمص ثلاثة أدوار أثناء الكتابة، دور الكاتب، الذي يصنع عوالم وشخصيات العمل، دور الناقد، الذي يسأل نفسه باستمرار عن صواب وجودة ما يكتب، ثم دور القارئ، الذي يتفاعل مع النص من الخارج.

ويضيف: “لابد للكاتب في نظري أن يُوازن بين هذه الأدوار، ومتى ما اختل هذا التوازن فسوف يتأثر النص بكل تأكيد. يستحيل ألا يستحضر الكاتب القراء أو حتى قارئا واحدا فقط يضعه نصب عينيه، مهما حاول البعض الادعاء بأنه لا يفكر أبداً في القارئ أثناء الاشتغال على عمله، ولكن في الجهة المقابلة، لا يجب التفكير في القارئ أن يطغى على الكاتب، بما يحوله ضمنيا إلى عبد لشهوات القارئ وميوله، فإرضاء الجميع غاية لا تدرك، ولابد للكاتب من الاستماع إلى صوته الداخلي الخاص، وحده الذي يرشده إلى الوجهة المبتغاة في نهاية المطاف”.

وعلى نحو آخر، يتابع الكاتب العراقي صفاء سالم إسكندر: مرة قرأت جملة لماركيز، مضمونها يقول: أنه على الكاتب ألا يشتت انتباهه بالقارئ، لكن في الوقت الحاضر، لا أظن أن العبارة مأخوذ بها، على اعتبار أننا في عصر تسليع كل شيء، بما في ذلك الثقافة، فالناشر ينظر إلى الكتب على أنها سلعة، بهذا المفهوم التجاري البحت، صار يتم التبادل الثقافي وهذا لا يعني أن هنالك استثناء من هذه القاعدة.

واعتبر صفاء سالم، موضوع الكاتب والقارئ، صار موضوعًا تتحكم به وسائل التواصل الاجتماعي، وفق نظام المشاهدات، من له أقل، ومن له أكثر، وهذه الصيغة لا تحقق مبتغى، ومراداً يعول عليه في مسألة الوعي، لننظر مثلاً إلى كتب الشعر، وعزوف الناشر والقارئ عنها، دليل فقدان للجانب الروحي والجمالي واللغوي، وهذا الأمر يأتي وفق المعطيات المادية التي صارت تتحكم في كل شيء، بشكل عام؛ فإن المفاهيم كلها تبدلت، ووسائل التواصل الاجتماعي غيرت الكثير من المفاهيم، والجوائز أيضًا.

تحدثت حنان علي، وهي صحفية ومترجمة من سوريا، عن أن الكتابة بذهنية مسبقة عن المتلقي تكبلها بشكل أو بآخر، وتحد من حريتها في خطّ مُكابدات أو مُهج الأيام، لكن هذا لا يُقصيها عن تذكر القارئ الذي بات غارقاً في مشاكله وهمومه وتحصيل لقمة العيش، خاصةً في ظل المحاولات لتسطيح وعيه وتزييفه عبر نشر السطحي والتفاهة.

وتؤمن حنان علي، بوجهة نظر فرويد عن الشعراء حين قال: “شعراؤنا هم أسيادنا في معرفة النفس، نحن الناس العاديين”، وتضيف: “لا أرى أيّ قارئ يترقّبني أثناء الكتابة، بل ثمة متخفٍّ مجهول يُحمّلني مسؤولية تجاه نصي، روحه وحبكته ولغته. ظلّ العالم يُبنى بواسطة الكلمات والأرواح.. تعمرها فكرة عظيمة. أكتب لأنني أكتب، كأي كاتب يصور ما يدو حوله، حين يعيش مجريات عصره، نصاً وحياة، معبراً عما لا يمكن التعبير عنه، على حد تعبير أوكتوفيو باث”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى