مقالات مختارة

الظلم العنصري ليس وليد عصر معيّن

ليام دانينغ

«لا يمكنك ترك شريحة من المجتمع تصبح ضحية» ـ قالها مايكل مينديز، البروفسور المساعد بجامعة كاليفورنيا في إرفاين، أثناء حديثه معي حول المظاهرات التي اشتعلت احتجاجاً على قتل جورج فلويد أسفل ركبة ضابط شرطة أبيض. إلا أنه تطرق في حديثه أيضاً إلى العدالة البيئية والتغييرات المناخية، بجانب وباء «كوفيد ـ 19» الذي حصد أرواح أكثر عن 100000 أميركي، وكشف النقاب عن فجوات وتفاوتات في الثروة والقدرة على الحصول على الرعاية الصحية والأمن الوظيفي.
جدير بالذكر هنا، أن مينديز نشر كتاباً جديداً قيّماً بعنوان «التغييرات المناخية من الشوارع» يتناول نضال مجتمعات أصحاب الدخول المنخفضة كي يكون لها صوت في صياغة السياسات البيئية.

والملاحظ أن هذا النضال من أجل العدالة المناخية يجري بالفعل داخل واحدة من أكثر المناطق الأميركية أيقونية: واتس، ضاحية لوس أنجليس التي تصدرت عناوين الأخبار منذ نصف قرن بسبب تفجر موجة أخرى من أعمال الشغب احتجاجاً على ممارسات عنصرية ممنهجة.

في أواخر يناير (كانون الثاني)، عندما كان لا يزال من الممكن ركوب طائرة ومقابلة غرباء دون الحاجة إلى ارتداء أقنعة، قضيت ظهيرة يوم مشمس هناك. وكان مرشدي في جولتي عبر الضاحية، ماك شورتي الذي نشأ هناك وأصبح اليوم ناشطاً معنياً بالقضايا المحلية.

وتبدو جروح وانتصارات واتس واضحة في هيكل المكان، فخلال 20 دقيقة باستطاعتك السير ما بين اثنين من معالم الضاحية يرجع تاريخ بنائهما إلى الفترة ذاتها تقريباً منتصف القرن العشرين: «واتس تاورز»، العمل الفني البارز الذي يعكس الطابع المميز لأعمال المهندس المعماري الإسباني الشهير أنطوني غاودي وجرى بناؤه من أشياء عثر عليها، و«غوردون داونز»، المشروع الإسكاني المتداعي المتسم بتاريخ ثقيل من عنف العصابات. وفيما بين الاثنين، يوجد «واتس كوفي هاوس»، مطعم يعتبر بمثابة شاهد على تاريخ الأميركيين من أصول أفريقية منذ الفترة اللاحقة لأعمال شغب عام 1965.
على الجهة المقابلة، توجد مدرسة فلورنس غريفيث جوينر الابتدائية – التي تحمل اسم بطل أولمبي سابق من سكان «غوردون داونز» – حيث أشار إلى غطاء أزرق ممتد بطول السياج ليحول دون رؤية الأطفال للشارع بعد حادث إطلاق نار وقع خارج المدرسة.

هذه الأيام، يغلب أصحاب الأصول اللاتينية على سكان الضاحية، وإن كانت أعداد الأميركيين من أصول أفريقية لا تزال كبيرة. وتشير الأرقام إلى أن متوسط دخل الأسرة في واتس يكافئ قرابة نصف المتوسط في كاليفورنيا، بينما يبلغ معدل الفقر بها قرابة الضعف. ومع أن الجريمة لم تعد بمستوى السوء الذي كانت عليه في وقت مضى، فإنها تبقى مشكلة. جدير بالذكر هنا، أن والدة شورتي تعرضت لإطلاق نار أرداها قتيلة في عام التحاقه بالجامعة.

وبالنظر إلى هذه الضغوط الكبيرة التي يتعرض لها أبناء الضاحية من يوم إلى آخر، من يملك وقتاً للتفكير في البيئة؟ ومع هذا، فإن شورتي يركز جهوده باتجاه هذا المجال تحديداً، والتي تتنوع ما بين إصلاح صنبور قذر وتنظيم فعاليات للاحتفال بيوم الأرض وجمع تبرعات، من أجل تركيب وحدات طاقة شمسية بالضاحية.

الواضح أن الضاحية بها الكثير من العمل يلزم إنجازه، خاصة أنها تأتي بين أسوأ 5 في المائة من جميع ضواحي كاليفورنيا من حيث مستويات التلوث. وتشير تقديرات إلى أن الشخص المولود في واتس من المتوقع أن يعيش عمراً أقل بـ12 عاماً عن جار آخر له من سكان لوس أنجليس، لكن يعيش في ضاحية برنتوود الميسورة. الواقع هذا أمر صادم وأكثر ما يصدم فيه أننا بمرور الوقت ألفنا مثل هذه التفاوتات في كيف يعيش الناس ويموتون. وفي ظهيرة ذلك اليوم من يناير، عندما توقف موظفان من هيئة الإسكان في «غوردون داونز» لإلقاء التحية، نبههما شورتي إلى ضرورة إزالة الغبار الذي علق بحذائيهما قبل العودة إلى منزليهما.

ربما لا توجد علاقة مباشرة تذكر بين الغبار الموجود على حذاء موظف ما والتغييرات المناخية الجارية على كوكبنا، لكن عند إمعان النظر يتضح لنا أن كل شيء تقريباً له صلة بفعل شيء حيال التغييرات المناخية، وهذه تحديداً الرسالة المحورية لكتاب مينديز سالف الذكر.

الملاحظ أن معارضة اتخاذ إجراءات لمكافحة التغييرات المناخية تزداد سهولة بسبب الطبيعة المجردة للتهديد، فلا أحد يرى بعينه ثاني أكسيد الكربون. وعليه، يبدو من السهل للغاية تجاهل المشكلة أو التنديد بالإجراءات الرامية للتعامل معها باعتبارها تقضي على فرص العمل. وتبعاً للتقليد الأميركي القديم، عادة ما يجري طرح القضية على خلفية الانقسامات والنماذج النمطية القائمة، مثل تصوير الموقف باعتباره مواجهة بين طبقات النخبة التي تعيش بالمدن الساحلية، ويخالجها القلق إزاء الدببة القطبية والعمال الذين يعيشون بالمدن الداخلية، الذين يسعون فحسب لتوفير ما يكفي من الطعام لأسرهم.
ومثلما أوضح مينديز، فإن مثل هذه التوترات صاغت السياسات البيئية التي انتهجتها كاليفورنيا. تجدر الإشارة هنا إلى أن واحداً من أكثر الجوانب المثيرة للجدل في القانون الشهير الذي مررته الولاية عام 2006، بعنوان «قانون الحلول لارتفاع درجات الحرارة العالمية» ووقعه الحاكم آنذاك أرنولد شوارزينيغر، كان اعتماده على آلية الحد الأقصى للانبعاثات والاتجار فيها. وبينما سعت الجماعات المعنية بالعدالة البيئية إلى تقليص الانبعاثات المسببة لظاهرة الاحتباس الحراري، فإنها أوضحت أن الآلية المقررة تتيح لمسببي التلوث شراء اعتمادات؛ ما يمنحهم القدرة على اختيار وتحديد أي المناطق يحدث فيها انخفاض حقيقي بالانبعاثات.

ورغم أن ذلك قد يخفض مجمل الانبعاثات الكربونية، وهو أمر جيد بالتأكيد للكوكب، فإنه يعني كذلك أن المجتمعات القريبة من مصادر التلوث التي يختار أصحابها شراء اعتمادات بدلاً عن تقليص الانبعاثات الضارة، ستبقى معرضة لمثل هذه الانبعاثات وتأثيراتها. ومثلما كشفت الكثير من الدراسات، فإن مثل هذه المجتمعات عادة ما تكون داخل ضواحي أفقر أو يسكنها أبناء الجاليات ما.

وكشف تحليل نشره العام الماضي باحثون من جامعتي مينيسوتا وواشنطن وقارن بين مستوى تعرض الأميركيين للجزيئات الدقيقة مقابل حجم التلوث الناتج من استهلاكهم، عن أنَّ البيض من غير أصحاب الأصول اللاتينية يتعرضون في المتوسط لقدر تلوث أقل بنسبة 17 في المائة عما ينتجه استهلاكهم. على النقيض، يتعرض الأميركيون من أصول أفريقية إلى قدر من التلوث يزيد بنسبة 56 في المائة عما يسببه استهلاكهم، بينما يصل الرقم ذاته فيما يتعلق بأصحاب الأصول اللاتينية إلى 63 في المائة. وبذلك يتضح لنا أن جميع التباينات المرتبطة بالثروة والتفاوتات البيئية والصحية احتشدت معاً لتكون سحابة ضخمة من الغبار الخانق فوق البلاد.

من ناحية أخرى، فإن هذه المجتمعات التي تعاني من ضآلة مستوى الخدمات المتوافرة لها تشكل منجماً ثرياً لدعم اتخاذ إجراءات أوسع نطاق إزاء التغييرات المناخية. على سبيل المثال، كشف استطلاع للرأي أجراه منذ عام برنامج «ييل» للتواصل بخصوص التغييرات المناخية، أن 49 في المائة من المشاركين البيض أعربوا عن «قلقهم» إزاء ارتفاع درجات حرارة الأرض، بينما وصلت النسبة ذاتها إلى 69 في المائة و57 في المائة في صفوف المشاركين من أصحاب الأصول اللاتينية والأفريقية على الترتيب.

في الواقع، التضحية بفئة معينة من المجتمع ليس أمراً منافياً للأخلاق فحسب، وإنما مغالطة منطقية أيضاً؛ ذلك أن الشرط الواجب توافره لاكتساب مناعة القطيع في مواجهة مصاعب متنوعة أن يعي المرء أولاً أنه بالفعل جزء من قطيع أو مجموعة ما.

– بالاتفاق مع «بلومبرغ»

المصدر
الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى