مقالات مختارة

السيسي ولُعبة الأُمم في ليبيا

د. علي الدين هلال

في يوم السبت 20 يونيو 2020، ألقى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في قاعدة محمد نجيب العسكرية خطاباً عن التهديد الذي يُمثِّله التدخُل العسكري التركي والمُرتزقة والميليشيات المُتطرفة على الأمن الليبي والمصري والعربي، وأعلن عن استعداد مصر للتدخُل العسكري لوقف هذا التهديد، رغم أن السيسي كان منضبطاً في تصريحاته، وأنه ارتدى الزي المدني، واختار مكاناً يبعدُ عن الحدود مع ليبيا مئات الكيلومترات، ولم يذكر تركيا بالاسم.

ورغم أنه أكد على أن مصر لا تسعى لتحقيق أي منافع خاصة بها، وأن أي تدخل مصري -إذا حدث-سيكون مُدعِّماً ومُسانداً للتحرك الليبي الرافض للسيطرة التركية-الميليشياوية لأنه “لن يُدافع عن ليبيا سوى أهل ليبيا”، وأن أي تدخُل مصري يمتلك مسوغات الشرعية الدولية وفقاً لمبدأ حق الدفاع الشرعي عن النفس ولأنه يأتي بناء على طلب السلطة الشرعية المُنتخَبة الوحيدة وهي “مجلس النواب الليبي”، وأن المُفاوضات التي يُشارك فيها كل الليبيين في الشرق والغرب هي الطريق الوحيد لحل الأزمة وذلك وفقاً لمقررات الأمم المُتحدة.

رغم ذلك كله، فقد قامت الدنيا ولم تقعد، وتبارت الأصوات التركية ومؤيدي حكومة الوفاق والمتحدثين باسم التنظيمات المُتطرفة في التنديد التصريحات.

فما هي أسباب هذه الردود الانفعالية ؟ يُمكن إرجاع ذلك إلى ثلاثة أسباب:

السبب الأول، هو إدراك جميع الأطراف بأن تحذيرات الرئيس السيسي ليست مجرد تهديدات لفظية وإنما تسندها قوة فعلية على الأرض وإرادة سياسية حاسمة، وأن مصر تمتلك من أدوات القوة الصلبة/الخشنة ما يُمكِّنها من تحويل هذه التصريحات إلى واقع، وحرص الرئيس المصري على تذكير الجميع بأن “يُخطئ من يعتقد أن حلمنا ضعف، وأن الصبر تردد.. صبرنا لاستجلاء الموقف وإيضاح الحقائق، لكن ليس ضعفاً أوتردداً”.

ولابُد أن أقمار التجسس التركية قد رصدت أرتال مئات الدبابات التي تحركت على مدى أيام صوب الحدود الغربية، وأن هذا التحرك المصري من شأنه إفشال المشروع السياسي لتركيا بمد نفوذها في ليبيا، ودعم تنظيمات الإسلام السياسي فيها، ومطامعها الاقتصادية في السيطرة على حقول النفط والغاز فيها.

لاقى الموقف المصري تأييداً سياسياً عربياً، كان من أبرز مظاهره البيانات الصادرة عن وزارات خارجية السعودية والإمارات والبحرين مؤيدة للموقف المصري.
في هذا السياق، يُمكن فهم إشارة الرئيس المصري إلى مدينتيْ سرت والجفرة، وخطورة وقوعهما تحت سيطرة تلك التنظيمات والميليشيات، إذ تُعتبر سرت بوابة ومفتاح الطريق إلى الشرق ومناطق النفط الليبي، ومنها إلى مدينة بني غازي التي تبعد 150 كيلومترا عن الحدود مع مصر، أما الجفرة فتضم قاعدة جوية عملاقة تُمثِّل في حال وقوعها في أيدي مُعادية، تهديداً صريحاً للأمن المصري، وكانت الإشارة إلى هاتين المدينتين رداً على تصريح الرئيس التركي أردوغان في 8 يونيو بأنهما الهدف القادم للحملة العسكرية التي تدعمها أنقرة.

والسبب الثاني، أن الموقف المصري سُرعان ما لاقى تأييداً واسعاً في الداخل الليبي، فأصدر رئيس مجلس النواب المُستشار “عقيلة صالح” بياناً أشار فيه إلى أن خطاب الرئيس المصري يأتي “استجابة لندائنا بضرورة التدخُل ومُساندة قواتنا المسلحة الليبية في حربها على الإرهاب والتصدي للغزو الخارجي”، وأضاف بيان لجنة الدفاع والأمن القومي بالمجلس أن مصر لها الشرعية الكاملة في التدخُل لمنع إراقة دماء الليبيين، وطالب المجلس الأعلى للقبائل والمُدن الليبية مصر بالتدخُل لطرد “الغُزاة الأتراك” وأن مصر كانت دائماً مُساندة لتطلعات الشعب الليبي مُشيراً إلى دورها في دعم كفاحه ضد المُحتلين الإيطاليين، وأضاف بيان مجلس مشايخ مدينة ترهونة أن مسؤولية مصر تجاه ليبيا تستمد شرعيتها من مُعاهدة الدفاع العربي المُشترك، وسار في نفس الاتجاه، بيانات مشايخ وأعيان الكثير من القبائل والمُدن.

كما لاقى الموقف المصري تأييداً سياسياً عربياً، كان من أبرز مظاهره البيانات الصادرة عن وزارات خارجية السعودية والإمارات والبحرين مؤيدة للموقف المصري، ومؤكدة على أن الأمن الليبي هو جُزء لا يتجرأ من الأمن العربي، وظهر التفهم العربي لهذا الموقف في قرار مجلس وزراء الخارجية العرب بتاريخ 23 يونيو والذي رفض في ثلاثة بنود له التدخُلات الأجنبية وإرسال المقاتلين المُتطرفين الأجانب إلى ليبيا، وكافة التدخُلات الأجنبية غير الشرعية التي تنتهك القرارات الدولية وتسهم فى انتشار الميليشيات المسلحة الإرهابية، والمطالبة بسحب كافة القوات الأجنبية الموجودة على الأراضى الليبية وداخل المياة الإقليمية الليبية، وكُلها عبارات تُشير إلى رفض الدور الذي تقوم به تركيا في ليبيا، كما أيد المُبادرة السياسية التي أعلنتها مصر في يوم 6 يونيو المعروفة باسم “إعلان القاهرة”.

وتضمَّن البند السابع من القرار “التحذير من مغبة الاستمرار فى العمل العسكري لتحريك الخطوط التي تتواجد عليها الأطراف حالياً تفادياً لتوسيع المواجهة”، وهو نفس موقف الرئيس السيسي عندما حذَّر من استمرار القتال وامتداده إلى سرت والجفرة.

والسبب الثالث، أن هذا الموقف المصري يُؤثِّر على لُعبة الأُمم التي تجري على الأرض الليبية والتي تضم توازنات وتفاهمات بعضها مُعلن وكثير منها مُضمر يُمكن فهمه من خلال مُتابعة الأحداث وقراءة ما بين السطور، فالعُدوانية التركية التي تمثَّلت في إرسال آلاف من المُرتزقة ممن شاركوا في صفوف التنظيمات التكفيرية الإرهابية، وإرسال كميات كبيرة من شحنات السلاح على متن سُفنها ورفضها السماح لسُفن الدول الأوروبية التى تقوم بمُراقبة الساحل الليبي بالتأكد من عدم وجود أسلحة عليها، والإشارة هُنا إلى السُفن المُشاركة في عملية “إيريني” التي يديرها الاتحاد الأوروبي تنفيذاً لقرار مجلس الأمن بحظر توريد السلاح إلى ليبيا، هذا السلوك التركي ما كان يُمكن تصوُّر حدوثه دون مباركة أو غض طرف أمريكي رُبما لأن واشنطن وجدت في التدخُل التركي عنصر توازن مع الدور الروسي في ليبيا.

تغير هذا الموقف نسبياً في أعقاب خطاب الرئيس السيسي، فدعا المسؤولون الأمريكيون حكومة الوفاق إلى التعاون مع جيرانها والقوى الفاعلة دولياً لوقف إطلاق النار وبدء حوار ومفاوضات سياسية بين الأطراف الليبية، وقاموا بإبلاغ هذه الرسالة إلى رئيس حكومة الوفاق، وذكر بيان السفارة الأمريكية في طرابلس أن واشنطن سوف “تُعمِّق مشاوراتها مع المُتحاورين”.

وبالنسبة لروسيا، فإنه لا يُمكن تفسير الانسحاب الطوعي لعناصر قوات شركة “فاجنر” الروسية من مواقعها لتحل محلها ميليشيات حكومة الوفاق دون وجود تفاهُم بين تركيا وروسيا حول دور كل منهما ونطاقه الجغرافي، ولكن هذا التفاهم لا يعني غياب الاختلافات بين البلدين، ويدل على ذلك، تأجيل اجتماع وزيريْ الدفاع والخارجية في البلدين، والذي كان مُزمعاً عقده في 14 يونيو.

أما فرنسا، فقد أشار رئيسها ماكرون إلى أن تركيا “تلعب لعبة خطيرة” وتتبع سياسات عُدوانية في ليبيا، تتعارض مع التزاماتها وفقاً لمؤتمر برلين الذي انعقد في يناير 2020، أما إيطاليا فقد تلاقت مصالحها مع تركيا وسافر وزير خارجيتها إلى أنقرة لمُقابلة نظيره التركي واشتركت الدولتان في مُناورات بحرية في شرق البحر المتوسط. وهكذا تتصارع وتتداخل مصالح الدول في ليبيا.

إن مصر لا تسعى بالتأكيد إلى استعراض عضلاتها العسكرية، وعندما لوَّح رئيسها باستخدام القوة المسلحة، فإنه كان يوجِّه رسائل متعددة إلى أطراف ليبية وإقليمية ودولية جوهرها وقف القتال وبدء عملية مفاوضات بهدف الوصول إلى حلول سياسية وسلمية، وكان ذلك متسقاً مع أحد التوجهات الرئيسية للسياسة الخارجية المصرية وهي ضرورة حل النزاعات بالطرق الدبلوماسية والسياسية، وأن اللجوء إلى القوة المسلحة هو الملاذ الأخير، يدل على ذلك، أن القيادة المصرية في 6 يونيو أعلنت مُبادرة للحل السلمي، وفي 19 يونيو دعت إلى عقد اجتماع عاجل لمجلس وزراء الخارجية العرب لبحث الموقف في ليبيا، وفي 20 يونيو أدلى الرئيس بتصريحاته وسط قوات الجيش الرابع الميداني مما يوضح المُزاوجة بين الأداة الدبلوماسية والأداة العسكرية.

المصدر
العين الإخبارية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى