اهم الاخباركتَـــــاب الموقع

الرغاطة

218TV.net خاص
سالم العوكلي

كثيرا ما تفرز الحروب الأهلية أو الإقليمية أو القبلية حكاياتها المختارة أو مواعظها أو حكمتها حتى وإن كانت حربا جاهلية بالوصف التاريخي العربي لها حين تكون بين الأخوة وبلا هدف. ومتى كان للحرب هدف يبررها لمن يبدأها حتى وإن كانت تحت شعار نشر عقيدة أو أيديولوجيا؟ فالحرب هي الحرب، مشروع لقتل البشر وتجويعهم وإذلالهم، خصوصا من لا علاقة لهم بهذه الحرب أو لا مصلحة لهم فيها، وهم غالبا من يدفعون ثمنها.
التاريخ الليبي مليء بالحروب الأهلية،إثنية أو جهوية أو قبلية، ولعل ما أسميته عمارة الخوف التي تتكون من أطلال قرى مذعورة شُيدت في أعلى الجبال على جرف عال كما في جبل نفوسة، يؤكد ذلك، بينما مازالت بعض المدن والقبائل تحتفظ بما أورثت هذه الحروب من عداوة حتى الآن تعود كلما تفشى فراغ في السلطة المركزية، سواء كانت سلطة محلية أو غازية، وثمة ملاحم شعرية شعبية تمخضت عن هذه الحروب وحلق بها الخيال الشعبي إلى فضاء الأسطورة أو الخرافة، لدرجة أن أصبح تاريخنا خليط بين الوقائع الحقيقية والخرافات التي نمت على هوامشها.
من الحروب الشهيرة في منطقة الشرق حرب قبيلتي العبيدات والبراعصة، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، التي استمرت على مدى 20 سنة تقريبا، ثم انتهت إلى مصالحة تاريخية، وتحولت فيما بعد إلى فكاهة يتبادلها أجيال القبيلتين الجارتين، كونها انتهت بسلام حقيقي بعد أن خسر مؤججوا تلك الخرب معركتهم مع الحكمة، وكانت المبادرة من قبل شخصية شهيرة من قبيلة العبيدات اسمه علي الفرجاني العبيدي.
لقد مالت الكفة في تلك الحرب لصالح البراعصة الذين بدءوا في مطاردة العبيدات حتى أوصلوهم إلى منطقة (لردام) جنوب شرقي درنة، لكن معركة حاسمة حدثت على أبواب قرية عين مارة فقد فيها البراعصة أفضل فرسانهم بعد كمين نصبه لهم اللافي زعيم القوة المدافعة عن قرية عين مارة، حين سمع العبيدات في جنوب درنة بما حدث بدءوا يعدون العدة لمهاجمة البراعصة الذين استولوا على أرض واسعة من أرض العبيدات، لكن الشيخ علي الفرجاني وجدها فرصة لتضع هذه الحرب أوزارها بدل أن تبدأ حمى الانتقام من جديد، منتهزا فرصة ما حدث من توازن في القوى كفاتحة لحوار السلام، فاجتمع في منطقة (هوا الحيلة) جنوب درنة بعمداء قبيلته والفرسان الذين يعدون العدة لهجوم معاكس، واقترح عليهم أن يكون الهجوم في اليوم التالي (والصباح رباح) كما قال ، وحين اقتنعوا بوجهة نظره أسرى خلسة إلى الجبهة المتقدمة من البراعصة وأخبرهم بما يحدث ونصحهم بالتراجع إلى حدودهم الأصلية، وهذا ما حدث ليصل مقاتلو العبيدات في اليوم التالي ولم يجدوا أحدا، ومن خلال هذه الحيلة اكتسبت المنطقة اسمها (هوا الحيلة) حتى الآن، والتي كثيرا ما نسمع بها في وسائل الإعلام بسبب الصدامات التي تحدث فيها الآن بين المجموعات المتشددة في درنة والجيش الوطني.
بمجرد أن حال الشيخ علي الفرجاني دون ارتكاب مجزرة أخرى بدأ في السعي إلى عقد اجتماع (ميعاد) لإنهاء هذه الحرب وإعلان السلام بين القبيلتين، وتحدد يوم الاجتماع الذي حضره شيوخ من القبيلتين المعنيتين ومن القبائل المتحالفة مع كل قبيلة ، وحين وصلوا إلى نوع من التوافق تدخل شيخ من قبيلة متحالفة مع البراعصة، محاولا إفساد التوافق، فما كان من الشيخ علي الفرجاني إلا أن قال له : “أنت رغاط، والرغاط لما يقيّلوا اهل الزرع يقيّل” ولعل هذه العبارة تحتاج إلى بعض الشرح لأني سأسقطها عما يحدث الآن على مستوى ليبيا.
الرغاط هو من يتطوع يوما أو أيام لمساعدة صاحب الزرع في الحصاد، والمجموع رغاطة، ومن الطبيعي عندما يرتاح أهل الزرع في القيلولة من المفترض أن يرتاح الرغاط ولا يزايد عليهم .
تذكرت هذه العبارة بعد اجتماع المشير خليفة حفتر ورئيس المجلس الرئاسي فايز السراج في أبو ظبي ، حيث خرجت أصوات عدة تحاول إفساد هذا التقارب وبوادر التوافق وإحلال السلام، وليس المعنى أنهما أهل الزرع ولكن من منطلق أن لهما ما يؤهلهما ليكونا بوابة للتصالح باعتبار أنهما يشكلان طرفين مهمين في النزاع يعترف بهما المجتمع الدولي. المشير تم تعيينه قائدا عام للجيش الليبي من قبل السلطة الوحيدة المنتخبة والشرعية آنذاك وبعض الكفاءات العسكرية في الشرق والغرب والجنوب يعيدون هيكلة الجيش الليبي ويحاولون توحيده مع دعم شعبي لا يستهان به، والسراج يمثل آخر حلقة في المسار المدني الليبي باعتبار نهاية مدد الأجسام الأخرى الدستورية المرتبطة شرعيتها بالتوقيع على الاتفاق السياسي وبشرعنة مجلس النواب للمجلس الرئاسي رغم عدم اعتماد حكومته أو تقديمها للقسم القانوني أمامه.
من يرفعون عقائرهم بمحاولة إفساد هذا التقارب يشبهون الرغاطة الذين يزايدون على أهل الزرع، وهم كظلال لديهم مصالح في استمرار الأزمة وسفك الدماء مثلما كان شيخ تلك القبيلة المتحالفة (والذي يسمى في اللهجة: الشكبان) له مصلحة في استمرار الحرب لأنه موعود بجزء من الأرض والغنائم التي يتم الاستيلاء عليها. ولعل الهجوم الذي حدث على قاعدة براك الشاطيء وما صاحبه من سفاهة على كل المستويات يقع في دائرة الرغاط الذي لا يريد للحرب والانقسام والاستقطاب أن تنتهي لأنها كل ذلك يصب في مصلحة التجار والسماسرة والمهربين المستفيدين أفرادا وجماعات من هذه الأزمة .
تلك الحرب بين القبيلتين تقع في دائرة الحرب الجاهلية التي لا هدف لها، وتسببت في خسائر ومآسٍ كثيرة، لكن يبدو أن الحرب مازالت قدر البشر في المجتمعات المتحضرة والمتخلفة، لذلك كان العمل على تهذيب هذه الحروب وإصباغ نوع من الأخلاقية عليها أقصى ما تم انجازه أمام يقين أن نهاية الحروب والنزاعات فوق الأرض مازال حلما مستحيلاً على المدى البعيد، وهذه القناعة هي ما أنتجت اتفاقيات فيينا وقوانين الحروب كمحاولة لأنسنتها بعض الشيء.
وحين تتمتع الحرب بأخلاق الفرسان عادة ما يكون السلام الذي يعقبها نبيلا ودائما.
نشر الباحث والأديب أحمد يوسف على صفحته، في يوليو 2016، هذا المنشور :
“حين نشبت الحرب بين قبيلتي البراعصة والعبيدات في القرن التاسع عشر ..وضعوا ميثاقاً شفوياً قبل القتال:
ـــ لا قتال في الليل (من حَجّة الشمس لاعند الفجر).
ـــ لا اغتيال ولا خديعة: (الحرب اصدار).
وحين قُتِل ( بوزوير البرعصي ) قام شيخ العبيدات بدفع ديّته أثناء الحرب.. لأنه قُتِل في الليل بالمخالفة للميثاق.
ـــ لا سبي ولا انتهاك أعراض.
الولية العبيدية تمشي في وطن البراعصة .. والبرعصية تمشي في وطن العبيدات .. معزّزة مكرّمة .. المرأة العبيدية حين تنزل ضيفة على البراعصة تُكرّم بالذبيحة لها على عادتهم في إكرام الضيف .. وكذلك المرأة البرعصية في ضيافة العبيدات.
وحين انتهت الحرب وعُقد الصلح سنة (1890م). لم تسجل حالة اختراق واحدة لذلك السلام حتى الآن..!
إنها قِيَم ( لم تكن مكتوبة) حافظوا عليها طيلة عشرين عاماً مدّة الحرب .. قولوا عنهم ماشئتم : بدو .. أجلاف .. رُعاة أغنام .. أميّون .. لكنهم كانوا في حروبهم أكثر نُبلاً من متحاربي اليوم .. المتعلّمين المُثقلين بالشهادات والأنواط والنياشين..!”
اعتقد أن ما يجعل محاولات التوافق في ليبيا صعبا، وما يجعل النزاعات تعود كل مرة بعد التصالح، كون هذه الحروب المنتشرة عبر أجزاء الوطن الواحد في أغلبها بعيدة عن أخلاقيات الحرب وعن أخلاق الفرسان.
الخطف والغدر وقتل الأسرى أو ذبحهم والتمثيل بالجثث واغتصاب النساء وحرق البيوت، يجعل من هذه النزاعات حروب جبناء دون حد أدنى من الأخلاق، خصوصا من الجماعات الإرهابية والميليشيات التي لا تلتزم بقيم اجتماعية أو عرفية في أخلاق الحرب ولا بمرجعية قانونية تفرضها القوانين الحديثة وأخلاق المؤسسة، ومحاربون بهذه الأخلاق الوضيعة يصعب الوصول معهم إلى سلام أو تعهد أخلاقي .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى