كتَـــــاب الموقع

الرأسمالية والليبرالية والديموقراطية

عمر أبو القاسم الككلي

ما من شك في أن تاريخ العالم الحديث والمعاصر شكلته الرأسمالية، ثم الإمبريالية. وكانت الطبقة البرجوازية الأوربية، وبعد ذلك الأمريكية، هي التي نهضت بعبء هذا المشروع التحويلي الخطير. فتولد الطبقة البرجوازية الأوربية داخل قلب المجتمع ذي نمط الإنتاج الإقطاعي، وتناميها وصراعاتها مع الطبقة الإقطاعية، طبقة النبلاء، وثوراتها عليها، تمخض عنها نمط إنتاج جديد وطبقات جديدة (طبقتا العمال والفلاحين) وأفكار سياسية وفلسفية وأنظمة حكم جديدة. وتطور علمي وصناعي باهر يفتح أمام الإنسانية آفاقا واسعة جديدة، ناهيك عن ابتداع أشكال جديدة في الفنون والآداب لعل أبرزها، بالنسبة إلى الأدب، ظهور الرواية.

لقد جاءت الطبقة االبرجوازية بمشروع تحريري حرر الأقنان، الذين هم أقرب إلى العبيد، والمرتبطين بأرض الإقطاعي، وحولتهم إلى عمال مأجورين خاضعين لعملية العرض والطلب في سوق العمل، حيث صار العمل بمثابة سلعة تباع وتشتترى. كما حررت المرأة. وهذا التحرير، في الحالتين، كان لمصلحة هذه الطبقة الصاعدة الفتية وأدى إلى نشوء شكل جديد من الاستغلال للعمال والفلاحين والنساء والأطفال في مواقع العمل.

اقترنت التحولات الرأسمالية بظهور الفكر اللبرالي ذي المحتوى الاقتصادي أساسا، حيث يشجع التنافس التجاري والصناعي وحرية التجارة وينمي الروح الفردية المتحررة المغامرة. وكان لابد في هذا السياق من إتاحة حرية الرأي واالدفاع عنها، والخروج من سيطرة الكنيسة على المعتقدات والأفكار والعلوم والآداب والفنون.

ثم ما لبثت اللبرالية أن اقترنت بالديموقراطية التي كانت لها جذور عميقة في التاريخ الإنساني منذ اليونان والرومان، وإن كانت في جذورها البعيدة هذه مقتصرة على طبقة الأحرار وتستثني العبيد والنساء. لكنها، في التطورات الحديثة، صارت تعني حكم الشعب لنفسه بنفسه عبر ممثلين مننتخبين من قبله. هذا التحول في شكل الديموقراطية والحكم الديموقراطي أسهم فيه المفكرون التنويريون الأحرار والفنانون والأدباء، إلى جانب نضالات الطبقات االعاملة والفلاحية والفئات المهمشة. بحيث تحول المجتمع من مجتمع محتوى داخل “صَدفة” الدين، إلى مجتمع ذي “لب مدني دنيوي” (علماني) تنظمه قوانين تسعى إلى استقرار المجتمع على أساس حقوقي.

القصد من هذا الاستعراض الإشارة إلى أن التحولات التاريخية في المجتمع والفكر والعلم تتولد عن ظروف عينية وعوامل تغيير متضافرة تختمر في قلب المجتمع، وقد تتمكن من النشاط والتطور والانتشار، وقد تعترضها ظروف وعوامل معاكسة تجهضها. لكن ينبغي التأكيد على أن التبدلات والتحولات في النواحي والمجالات الإنسانية المشار إليها أعلاه لا تحدث على نحو انعكاسي آلي ميكانيكي مباشر، وإنما تجري عبر عمليات وتوسطات ومخاضات متداخلة ومعقدة، كثيرا ما يصعب تبينها وتحديدها وتحديد مدى الدور الذي لعبته في تطور عمليات التحول الاجتماعي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى