اهم الاخباركتَـــــاب الموقع

البصّاص

 فرج عبدالسلام

(في أبهى صُورِها…)

تعبير whistleblower ترجمته الحرفية “نافخُ الصافِرة” وتشرحه القواميس المختلفة بأنه كاشف الفساد، والمبلغ عن الأعمال غير القانونية، أو المخبر أحيانا. وهو شخص يكشف سوء السلوك، أو الاحتيال المزعوم، أو النشاط غير القانوني الذي يقع في مؤسسة ما، وإن كان التعبير السائد في ثقافتنا الليبية يصفُ نافخ الصافرة هذا بـ “البصّاص”. وتتباينُ الأفكار كثيرا في المجتمعات المختلفة حول فكرة كشف الفساد، فأحيانا يُنظرُ إلى كاشفي الفساد على أنهم يضحون بأنفسهم لأجل الصالح العام ؛ بينما يراهم آخرون “خونة” أو “مارقين”

في معظم الثقافات هناك رفضٌ لوظيفة “البصّاص” والتعبيرُ بحد ذاته يوحي بأن هذا العمل مهين، قد يرتقي إلى خيانة الثقة، وهناك ثقافة سائدة في العديد من المؤسسات العسكرية والتعليمية، وهي أن يُتّخذُ إجراءٌ عقابي ضد من أبلغ عنه البصاص، بينما يطاله هو أو هي عقاب مضاعف، إلى جانب سمعة سيّئة تلاحقه لقيامه بعملٍ مشين. ونعرف جميعا أن فعل “البصاصة” ضمن محيط العائلة عمل مستهجن في أغلب الأحوال، ودائما ما يحاول الآباء ثني أطفالهم عن ارتكاب جنحة البصاصة، ربما لكي لا يعتادونها عندما يكبرون.

بطبيعة الحال فالبصّاصُ يختلف عن عمل أفراد المباحث والرقابة الإدارية ومن في حكمهم، لأن هؤلاء يفترض أن وظيفتهم هي تطبيق القانون وحماية الأمن العام، ومع ذلك تظل وظيفتهم مستهجنة إلى حد كبير، وهناك استرابةٌ دائمة من مثل هذه المهن، وأقل وصف يقال عنهم في بلدنا أن فلانا “أنتينا”

في الولايات المتحدة هذه الأيام تناقش قضية كبرى حول بصّاص بعينه، قد يؤدي ما قام به من “بصاصة” في نهاية المطاف إلى عزل رئيس أكبر قوة على الأرض من منصبه، لقيامه بأفعالٍ مخالفةٍ للقانون. لكن من المفيد أن نعرف أنّ غالبية الدول التي تحترم الحقيقة تشجع على كشف الفساد، بل وتضع قوانين محكمة لحماية مثل هؤلاء المبلّغين من التنكيل بهم.

النقطة الأهم في الموضوع أنّ بصّاص البيت الأبيض أتاح لي بالأمس مشاهدة الديموقراطية الغربية في أبهى صُورها، من خلال مساءلة لجنة الاستخبارات في مجلس النواب الأميركي لأعلى سلطة أمنية واستخبارية في البلد وإجباره على تفصيل الاجراءات التي اتخذها ومدى تطابقها مع القانون، وعدم محاباته لرئيس الولايات المتحدة على حساب القوانين والأعراف. وبالتالي رأينا عندما يحتكم مجتمعٌ ما للدستور وللقوانين التي تنظّمُ مسيرته، ورأينا كيف تطبق المجتمعاتُ المتطورة مبدأ “فصل السلطات” الذي هو حجر الأساس في عموم ديموقراطيات الغرب، وكيف تقوم وسائل الإعلام بعملها على أكمل وجه، فتكون سلطة رابعة بحق لا يحكم نهجها وقراراتها سوى المهنية والضمير الصحفي.

لم أملك وأنا أشاهد الاستعراض المدهش للديموقراطية الغربية بالأمس إلاّ أن أتحسّر على وضع بلادنا، التي تُزهق فيها الأرواح دون مبرّر منطقي ودون حسيب أورقيب، والتي حُجزت فيها حرّية رئيس جهاز رقابي لأن تقريره تضمّن إشارات عديدة إلى فساد وسرقات مثبتة من قبل حكومة شرق ليبيا. وكذلك الكثير والكثير من مثل هذه المُضحكات المبكيات…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى