مقالات مختارة

اغتيال حقيقة لبنان

فهد سليمان الشقيران

لم يبدُ رفيق الحريري مرتبكاً حين ظهر في فيلم وثائقي بعنوان: «الرجل ذو النعل الذهبي» من إخراج عمر أميرلاي صدر عام 2000. أميرلاي اليساري شديد الانتقادات للسياسيين وأدوارهم الاقتصادية، حشد الأسئلة التي تدور في أذهان البعض حول الحريري، ومشروعه، وثروته. الحوار بدا بين المثقف والسلطة، بأثر النقاش المحموم من غرامشي وحتى المثقفين اليساريين العرب، واستبدله فوكو بـ«المثقف المتخصص»، وربما التفكير بطريقة فنية. أميرلاي في ثلث الفيلم الأخير عاد إلى أصدقائه، ومنهم الراحل سمير قصير، وناقشوه عن حدة الأسئلة.

الحريري بجبته الشتوية لم يبدِ انزعاجاً من سؤالٍ، كما فعل حين حدثوه عن رجال الأعمال وكونهم ربما لا يبالون بالقراءة والاطلاع. لكنه أجاب بتهدجٍ شديد بأنه لا يمر أسبوع من دون أن يكمل كتاباً، واستغرب من تحويل العلاقة بين المثقفين والسياسيين إلى علاقة «وعي» مقابل «جهل»، وكأن مقابلهم مجرد شخصٍ غارق بالأموال من دون التمتع بأي اطلاعٍ ثقافي.
العجب أن هذا الفيلم غيّر الكثير من قناعات المقابلين والمشاركين، عمر أميرلاي شارك في ربيع دمشق، وسمير قصير تحوّل إلى أحد رموز «ثورة الأرز» التاريخية.

الحريري لم يحمل آيديولوجيا تمنعه من التواصل مع الآخرين، كما يفعل أعداؤه اليوم. يروي جورج فرشخ في كتابه: «الفضل شلق: تجربتي مع الحريري» على لسان شلق عن قصة التحاق الأخير بالحريري عام 1987، يقول حين التقاه في جلسة قهوة بانتظار الطائرة: «قلت له: أنا، الآن بالذات، عضو في الحزب التقدمي الاشتراكي، حزب كمال جنبلاط. إذا كانت يساريتي أو انتسابي الحزبي يسببان لك إحراجاً، الأفضل أن تأخذ علماً منذ البداية.

الوضوح والصدق أساسيان لبناء واستمرار أي علاقة أو تعاون. قال لي: لا، أبداً. لا حرج، انظر إلى الطاولة المجاورة، ودلّني عليها، وأشار إلى شخص بعينه: هل تعرفه؟

– كلا!

– هذا عدنان الزيباوي اليساري المعروف، والعضو في منظمة العمل الشيوعي. إنه أقرب الناس إليّ. ليست عندي مشكلة».
كان اغتيال الحريري استهدافاً لنموذج تنموي ولفضاء استثماري واقتصادي، لو أنه تم فسيكون مما يشار إليه بالبنان في المنطقة كلها.

تصريح الأمير خالد بن سلمان، المهم، ذكّر العرب واللبنانيين بالمشروع النهضوي الذي أراده رفيق الحريري، يقول الأمير: «إن ميليشيات الغدر الإيرانية لا تعرف إلا ثقافة الدمار، وإنها اغتالت رفيق الحريري بعد أن ضاقت ذرعاً بمشروعه للنهضة. رفيق الحريري كان قائداً وطنياً مصلحاً»، لافتاً إلى أنه «قاد مسيرة إعادة الإعمار وتحقيق الاستقرار في لبنان. استشهد قبل 15 عاماً رفيق الحريري. كان قائداً وطنياً مصلحاً، قاد مسيرة إعادة الإعمار وتحقيق الاستقرار في وطنه، وابتعث الآلاف من أبناء شعبه من مختلف الطوائف. اغتالته ميليشيات الغدر الإيرانية التي ضاقت ذرعاً به وبمشروع النهضة الوطني الذي كان يدافع عنه، فهي لا تعرف إلا ثقافة الدمار».

تأتي هذه الذكرى، وبيروت ليست في أفضل أحوالها، يتذبذب حالها بين آمال الجيل الشاب الحالم بشعاراته المتصاعدة، والتي يتصدى لحراكها كهول السياسة وأمراء الحرب الأهلية وفئة من محدثي العمل السياسي ومحترفي الفساد ومدمني الفشل في الإدارة والسياسات.

الأزمات الاقتصادية والبيئية والسياسية والأمنية كلها تجعل هذه الذكرى لرحيل الحريري أكثر راهنية. لقد مثل للبنان المستقبل، وبعد استهدافه احتلت بيروت، وتغير وجه لبنان كلياً، وأدرج ليكون من دولة مؤسسة للعمل العربي إلى ما يشبه رأس حربة تشرع سياسات الحكومات فيه أعمال إيران العدوانية.

حقيقة بيروت يمثلها تاريخها الحضاري والثقافي والفني. اغتيال الحريري استهداف لحقيقتها المتمثلة في الانفتاح والحرية.
مروان إسكندر، وبعد اغتيال الحريري، وبحواراتٍ متلفزة، يروي عن الحريري أن أحلامه كانت تفوق وعي قاتليه، أعجب الحريري بنماذج التطور المذهل بمدنٍ خليجية، كان يتمنى أن تصل إليها طموحاته، لكن العصي كانت قد وضعت في الدواليب.
حاصرت دول الشر مشروعه، شعر أن الواقع أصغر من طموحاته.

إسكندر ألف كتاباً بعنوان: «رفيق الحريري وقدر لبنان»، فيه قال: «خلال السبعينات كان رفيق الحريري متفائلاً بمستقبل لبنان، وفي خريف 2004 كان حزيناً ومتشائماً، بعد انسحابه وتخليه عن مهمة رئاسة الوزارة الأولى في العهد الممدد، كان رفيق الحريري حزيناً، إذ غابت ابتسامته المعهودة، وحلّت محلها مسحة الأسى على وجهه.

وفي نوفمبر (تشرين الثاني) 2004 سألته: لماذا رأيتك مبتسماً وفرحاً مرتين فقط منذ بداية سبتمبر (أيلول)؛ الأولى حينما تسلّمت جائزة الأمم المتحدة لإعادة إعمار بيروت، والثانية حينما كنت في زيارة البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير؟ أجاب: كيف لا تفرح وأنت تتسلم جائزة عن إنجاز إعماري واضح لكل من يرى. راجع في ذهنك صورة بيروت خريف 1982، وانظر إلى ما هي عليه اليوم».

تريد إيران وأحزابها بالمنطقة أن تدمر المشاريع النهضوية العربية، والمسؤولون اليوم أمام خياراتٍ صعبة؛ إما المشروع الإيراني، أن تدك تماثيل قاسم سليماني والمهندس وأسامة بن لادن والبغدادي شوارع مدنهم، أو أن يحافظوا على ما بقي من إرث الفلاسفة والأدباء وعمالقة التجربة الإنسانية الفريدة.

في عام 2008، انتقدت وسائل إعلام تابعة لـ«حزب الله» تمثال رفيق الحريري باعتبار موقعه يخالف قوانين وأنظمة، واليوم يفتتح «حزب الله» في مارون الراس تمثالاً لقاسم سليماني، إن الصراع اليوم بين مشروعين لا ثالث لهما؛ إما مشروع البناء والنهضة، أو مشروع حكومات الصواريخ والقتل.

المصدر
الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى