مقالات مختارة

«اغتيال تروتسكي» لجوزف لوزاي: أسئلة حول اختيارات فنية وسياسية

ابراهيم العريس

في مقال نشره عام 1972 عن فيلم «اغتيال تروتسكي» الذي كان جوزف لوزاي حققه وعرضه في العام ذاته، يطرح الكاتب الإيطالي ألبرتو مورافيا الذي كان حينها مهتما بكتابة مقالات نقدية عن السينما، تنشرها مجلة «بانوراما»، سؤالاً حائراً: لماذا أقدم لوزاي على تحقيق هذا الفيلم؟ فإذا كان السبب سياسياً يتعلق باختياراته الخاصة، ليس ثمة أثر لتلك الاختيارات في الفيلم. فعملية الاغتيال كما يرى مورافيا، تتم في الفيلم كجريمة عادية تكاد تكون وجودية الطابع، وبالكاد يفهم المتفرج أن المجرم الحقيقي ليس رامون/ جاكسون مقترف الجريمة، بل ستالين القابع سعيداً دموياً في قصر الكرملين منصرفاً منذ سنوات إلى تصفية رفاقه السابقين، متوّجاً ذلك بالتخلص من تروتسكي وهو في منفاه المكسيكي وقد جُعل مكان إقامته حصناً حصيناً. في الفيلم، كما في الواقع التاريخي، يتمكن رامون/ جاكسون (آلان ديلون) من التسلل إلى بيت تروتسكي في المنفى بفعل مغازلته واحدة من العاملات مع الثوري المطارَد ما سهّل له الدخول، وبالتالي الإقدام على ارتكاب جريمته. والفيلم يتوقف عند الجريمة بعد أن كان يتابع شهرين من حياة تروتسكي في منافيه المتتالية وصولاً إلى المكسيك، ولقد قيل يومها في مجال انتقاد موقف لوزاي من الموضوع الذي يطرحه، أنه لو أراد الفيلم أن يكون سياسياً حقاً، كان عليه أن يخبرنا أن القاتل سُجن عشرين عاماً في ظروف مرفهة مدهشة، ثم أُطلق سراحه ليتوجه إلى تشيكوسلوفاكيا حيث عاش مكرماً معززاً. ما يعني تواطؤاً «ستالينياً» معه حتى حين قُبض عليه في المكسيك التي كانت تحكمه حينها حكومة يسارية. لكن الفيلم لم يقل هذا.

> الفيلم اكتفى بأن روى لنا الأحداث من دون أن يعلق عليها، وهو أمر لم يكن، على أي حال، من شيم جوزف لوزاي الذي كان قبل ذلك يعتبر من أبرز مخرجي هوليوود من ناحية إشاراته السياسية في أفلامه. ومن هنا تبقى لسؤال مورافيا مشروعيته. غير أن هذا لا يمنع من أن عرض الفيلم، ولو بنجاح محدود، في مختلف أنحاء العالم أواسط سنوات السبعين من القرن العشرين، قد أدى– سواء شاء الفيلم ذلك أو لم يشأه- إلى إعادة الأضواء كاشفة على عدة أمور، قد يجوز اعتبارها آتية من خارجه: فمن ناحية كان هناك التذكير بجريمة قتل واحد من كبار قادة الثورة البولشفية، ليس على يد أعدائها وإنما على يد «الثوار» أنفسهم، ومن ناحية ثانية، أتى الفيلم في خضمّ الأدوار «السياسية» الجديدة التي كانت السينما، في شكل عام، قد أناطتها بنفسها في خضم تلك الحساسيات الثورية الجديدة التي سادت العالم خلال النصف الثاني من ستينات القرن العشرين، ومن ناحية ثالثة، أتى الفيلم كنوع من إعادة الاعتبار، وإن في شكل سجالي في ما يتعلق بهذا الفيلم بالذات، لمسألة علاقة السينما بالتاريخ، وهي مسألة كان بحثها يشكل مجالاً جديداً للبحث والسجال في عالم الأفكار السينمائية. ولهذا كله، أكثر مما لقوة الفيلم– الذي اعتبره نقاد كثر من أضعف أفلام المرحلة الأخيرة من مسار مخرجه الإبداعي- ووجه «اغتيال تروتسكي» باهتمام كبير، وبالتالي كانت المآخذ عليه كبيرة، منها ما يتعلق بإدارة الممثلين، ومنها ما يتصل خاصة باختيار النجمين الشعبيين ريتشارد بورتون (في دور تروتسكي) وديلون في دور القاتل، ما فرض سلفاً مواقف كثر من المتفرجين تجاه الفيلم انطلاقاً من توجههم المسبق إلى التماهي مع نجمهم المفضّل. بيد أن ما كان أهم من هذا، تلك التساؤلات التي طرحت على سينما لوزاي نفسها في وقت كان قد وصل إلى الذروة خاصة من خلال ثلاثيته الشديدة البريطانية («الخادم» و «حادث» و «الوسيط»، وهي أفلام أتت سابقة مباشرة لتحقيق «اغتيال تروتسكي»)، ولما كان هارولد بينتر هو كاتب سيناريوات هذه الثلاثية ولم يتعاون لوزاي معه في «اغتيال تروتسكي»، بدا السؤال مشروعاً حول قوة لوزاي السينمائية الحقيقية. لكنه في الواقع كان سؤالاً غير محقّ، يحمل مجرد طرحه ظلماً لواحد من كبار مبدعي فن السينما أواسط القرن العشرين ولتاريخه.

> فعند بداية سنوات الخمسين كان لوزاي يعمل في إيطاليا على إنجاز أول فيلم له يخرجه خارج بلاده. وهو وجد ذات يوم أن ثمة لجنة أميركية مختصة بالتحقيق في النشاطات المناهضة لأميركا، تستدعيه إلى بلاده للمثول أمامها للنظر في ما إذا كان موالياً لأميركا كل الموالاة، أم أنه معاد لها. ولما كان لوزاي الشاب معروفاً بأفكاره اليسارية منذ أواسط الثلاثينات، ولما كان معروفاً أن تلك اللجنة التي اشتهرت باسم رائدها السيناتور ماكارثي، لا ترحم من لا يذعنون أمامها ويعترفون بـ «ماضيهم القذر» ويشون برفاقهم، قرر من فوره أن المنفى خير له من المثول أمام اللجنة. وبالتالي، لم يستجب لطلبها، بل واصل تحقيق فيلمه الإيطالي، ثم انتقل من إيطاليا إلى لندن حيث عاش بقية حياته واعتبر من قبل النقد الأوروبي واحداً من كبار مبدعي فن السينما، في الوقت الذي تم فيه تجاهله كلياً في بلده لسنوات طويلة قبل أن يعود الأميركيون إلى اكتشافه، وخاصة بعد رحيله، ولاكتشاف أي خسارة حلت بسينماهم جرّاء بقاء هذا المخرج في المنفى.

> مهما يكن من أمر حتى لو كان اسم جوزف لوزاي لا يعني اليوم الكثير للجمهور العريض، فإن عدداً من أفلامه يعتبر من أهم التحف السينمائية، من «الخادم» إلى «مقتل تروتسكي» إلى «الصبي ذي الشعر الأخضر» إلى «الوسيط» و «الخادم» و «الملعونون» و «حادث»، هذا كي لا نذكر سوى بعض أشهر أفلام لوزاي، الذي لا بد من أن نذكر ها هنا أن واحداً من آخر مشاريعه التي لم تتحقق كان فيلماً ضخماً عن حياة ونضال الملك العربي الراحل عبدالعزيز بن سعود، وهو فيلم كتب له السيناريو فرناندو سولاناس وصممت من أجله الديكورات، وكان من المفروض أن يصور في المغرب، لكن المشروع أُجهض في اللحظات الأخيرة.

> جوزف لوزاي من مواليد ويسكونسكين في 1909، ويعتبر من الذين وعوا وترعرعوا على أحوال الدنيا والمجتمع خلال سنوات الثلاثين التي كانت تضج فيها في الولايات المتحدة سلسلة من الأحداث الاجتماعية التي حملت إلى الأجيال الجديدة وعياً عززه وصول الرئيس فرانكلين روزفلت إلى الحكم، ما استنهض همم التيارات الجذرية والليبرالية واليسارية في محاولة أن تجد في فنون المسرح والأدب، خاصة، معادلاً يردّ على التردي الاجتماعي الذي أوصل إلى الفقر شرائح بأجمعها من السكان.

> ويمكن القول أن جوزف لوزاي كان من أوضح أبناء جيله في اختياراته الفكرية، وتجلى هذا في المسرحيات التي ساهم في إخراجها وكلها ذات منحى اجتماعي، وهو ما أوصله إلى التعاون مع بريخت خلال مرحلة هذا الأخير الأميركية، فتولى إخراج مسرحية «غاليلو غاليلي». ولقد ظلت علاقة لوزاي بالمسرح على تواصل حتى نهاية الأربعينات حيث اكتشف السينما كوسيلة تعبيرية أكثر شعبية وفعالية، فحقق العديد من الأفلام القصيرة والدعائية بعد عودته من جولة قادته من السويد إلى فنلندا فموسكو حيث تعرف على ما فيها من جديد سينمائي كما درس أساليب بسكاتور ومايرهولد في الإخراج. أما فيلمه الطويل الأول فقد حققه في هوليوود بعنوان «الصبي ذو الشعر الأخضر» (1948) وفيه بدت واضحة إلى جانب أساليبه الإخراجية والتشكيلية الجديدة، نزعاته الاجتماعية حيث جعل من فيلمه صرخة ضد أنواع التمييز والاستبعاد كافة ولصالح القبول بالاختلاف. في الولايات المتحدة حقق لوزاي أربعة أفلام أخرى قبل أن يتوجه إلى إيطاليا ويطاوله سيف المكارثية، فتوجه إلى لندن حيث ساهم في تأسيس تلك المدرسة الإخراجية الإنكليزية الحديثة، وحقق بعض روائعه التي أشرنا إليها أعلاه، ويمكننا أن نضيف إليها دون تحفظ رائعته «إيفا» المقتبسة عن رواية بوليسية لجيمس هادلي تشيس. ولئن كان لوزاي قد وصل إلى ذروته في 1971 حين فاز فيلمه «الوسيط» بالسعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي لذلك العام، فإن علينا أن نغفر له بعض هنات «اغتيال تروتسكي» الذي كان يمكن لولاها اعتباره واحداً من الأفلام السياسية الجيدة، ثم خاصة تحقيقه للاقتباس السينمائي لاوبرا موزار «دون جيوفاني» ثم «طرق الجنوب» الذي حققه في فرنسا، و«بيت الدمية» المقتبس عن إبسن و «سمكة الترويت» المقتبس عن رواية الفرنسي روجيه فايان… لقد كان جوزف لوزاي واحداً من بدو السينما الحقيقيين في تنقلاته ومنافيه العديدة، بل يمكن القول إنه ربما كان هو المؤسس الحقيقي للبداوة الحقيقية في السينما.

…………….

الحياة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى