أخبار ليبياخاص 218

أوراق في وداع “الفونشة” منهل البهجة وردة البلاد

(1)

ودّع عشاق الفن الشعبي والموسيقى التراثية في ليبيا نجمة الغناء التراثي “الوردة الليبية” والمعروفة أيضاً باسم “الفونشة”، واسمها الأصلي “خديجة إبراهيم الكاديكي”.. توفيت اليوم الجمعة الثامن والعشرين من شهر يناير 2022 عن عمر ناهز 87 عاماً، وقد أبصرت النور في حي الصابري بمدينة بنغازي سنة 1935.

(2)

عانت “الفونشة” في آخر سنين حياتها من المرض وربما العوز أيضاً، ولطالما عبّرت خلال لقاءات وحوارات إعلامية -على قلتها- من المشهد الليبي السائد والموغل في تهميش الفن والفنانين، ففي لقاء حصري ونادر على قناة “218” ظهرت الفنانة القديرة خديجة الكاديكي، في ليلة تكريمية لمسيرتها الفنية الطويلة والمليئة بالأحداث المختلفة وكانت تلك المقابلة هي النادرة والأخيرة في حياتها ومشوارها الطويل.

(3)

يُذكر الفنان جمال النويصري من مسرح بنغازي -في معرض نعيه للفقيدة- قال إن لقب الفونشة أُطلق عليها “نسبة لوالدتها المرحومة حواء الورفلي (الفونشة)، ثم أطلق عليها محبوها الوردة الليبية”، وكما أوضحت في مقابلة لها على قناة 218 أن لقب “الوردة الليبية” اسمٌ طالب به الجمهور بعدما تم تسميتها من قبل الإذاعة الليبية باسم “وردة السلامة”، إلا أن الجمهور طالب بتغيير الاسم لوردة الليبية.

أما والدها فهو “إبراهيم مصطفى الكاديكي” وكان فناناً موسيقياً يجيد العزف على البيانو، وفي مقابلتها على 218 تحدّثت عن علاقتها بعائلتها ووالدها الموسيقي وقالت إنه كان يهوى العزف على الكمان وممارسة رياضة الملاكمة، موضحة أن علاقتهما لم تكن قوية بسبب انفصاله عن والدتها التي قضت معها أغلب أوقاتها ومراحلها العمرية، وفي سياق الحديث عن أسرتها وعائلتها لم تغفل عن ذكر دعم والدتها الراحلة حواء الورفلي التي قالت إنها هي من أشرفت على رعايتها منذ الصغر، ولم تغفل عنها وقت الضيق ودعمتها من كافة النواحي قائلة: “ياما نذكر من سماحه معها” هي من جعلتني إنسانة.

(4)

التحقت “الوردة الليبية” بالفن في عمر مُبكّر واشتهرت بأحياء حفلات الأفراح والأعراس، وتعاونت مع عدد كبير من شعراء الأغنية الشعبية والتراثية والمرسكاوي، وكأي بداية لفنانة أو فنان كانت في البداية تدندن وتُغنّي لوحدها في البيت، وفي بداية مرحلة الشباب كانت عندما تحضر أعراس الجيران في الحي تُمسك زمام المبادرة في الغناء الشعبي على إيقاع الطبلة “الدربوكة”، كما أنها تجيد استخدام “التيكانت”، وبعدها انتقلت إلى مرحلة أخرى، بحيث أصبحت هي عنصراً رئيسياً في أعراس العائلة والجيران والأصدقاء وكانت تُقدّم نوبة في تلك الأفراح وترقص وتغني مع كل الحضور بدون مقابل، فقط لأجل التعبير عن المحبة والفرحة لكل من دعاها.

(5)

من أهم محطات انطلاق الفونشة دخولها مجال الأغنية الشعبية بعد انتشار الأشرطة التي تحمل اسمها في محلات بيع الكاسيت، ورأت “الوردة الليبية” في مقابلتها مع 218 أن هذه المرحلة جاءت بالصدفة، فبعد ظهور “مسجلات الكاسيت” تم تسجيل نوبة بصوتها دون درايتها في أحد الأفراح، ونُسخ الشريط وسُرّب وانتشر في السوق وأصبح موجوداً في جل البيوت الليبية لتجد نفسها أمام مرحلة جديدة، وذكرت هنا دور صاحب أحد محلات الكاسيت يُدعى حامد الفزاني والذي أخبرها أنه يرغب في تسجيل شريط بصوتها ليتم بيعه في المحل الخاص به، وعندما استشارت والدتها حواء الورفلي كان ردها: “هذا حظك ورزقك ونصيبك انتي وعويلتك وجاك لعندك يا بنتي توكلي على الله”.. لتسجل بعد ذلك أول شريط بصوتها وتحقق نجاحاً واسعاً وأصبحت مسموعة في كل ربوع ليبيا.

(6)

من أشهر أغاني “الفونشة”: “طول ما أنت معايا” – “حبه قوي” – “لو عام لو عامين”- “عزيزة والعزة بالله” وغيرها من أغاني، ولكن الوردة الليبية قالت لـــ 218 إن أقرب أغانيها لقلبها هي، “أنا لايمه وديما عليك انلوم يالي عليا حنون، أنا لايمه وديما انزيد ملامي، وانا لايمه علي عليا غالي والله العالي لو مانك علم انا ما عليك نلوم”.

وتتذكر الفونشة أسماء الشعراء ممن كتبوا روائعها -مثالاً لا حصراً- الذين تعاملت معهم، “علي الرقيعي” و”فرج الطيرة” و”فرج المذبل” و”محمد الشركسي” و”التهامي” و”عبد ربه الغناي”.

(7)

أتاح مهرجان النهر الصناعي سنة 1984 للفونشة الظهور التلفزيوني، ربما لا يكون الأول مرئياً ولكنه الأشهر، ما زاد من شهرتها وانتشار أغانيها، فقبل ذلك كانت شهرة الفونشة عبر الكاسيت فقط حيث ساهم انتشار أشرطة الكاسيت في أواخر ستينيات ومطلع سبعينيات القرن الماضي، في جعل اسم الفونشة متداولاً ومطلوباً لإحياء الأعراس والمناسبات الاجتماعية في هذه المرحلة، لتكوّن الفنانة فرقة موسيقية صغيرة من ثلاثة أعضاء منهم ضابط الإيقاع المرحوم صالح تيكا وفتاتان شقيقتان.

(8)

واجهت الفونشة في مرحلة الانتشار والشهرة الكثير من العراقيل في مجتمع يرفض عموماً دخول المرأة في مجال الفن، وإن بدا على غير ذلك في حدود ضيقة.

وصفت الفونشة تلك المرحلة من حياتها بقولها “ياما عنيت وياما سلطو عليّا وياما قالوا ولكن في النهاية لايصح إلا الصحيح”، موضحة أنها فرضت نفسها بعد معاناة صعبة كانت ترافقها من أحاديث تتدخل حتى في أبسط خصوصياتها، حيث قيل عنها “ليش تحني”، “وليش تضحك وسنها ذهب”، وحرب ضروس ضدها لكن دعم والدتها كان سداً وحائطاً منيعاً أمام كل الانتقادات والتجريح الذي طالها.

(9)

ظهرت الوردة الليبية في زمن لم تكن فيه المنافسة على عرش الأغنية الشعبية سهلة، وكان حينها في الساحة أصوات نسائية مهمة من بينها الفنانة “مريانا” والفنانة الراحلة “عائشة بتبشير” والفنانة الراحلة “فاطمة البرعصية”، وجاءت من بعدهم فوزية محمود وعدة أسماء أخرى، إلا أن الناس أحبوا صوت الفونشة وطريقتها المبهجة في الأداء ولإتقانها نطق أداء وغناء فن المرسكاوي – بشكل أخص.

(10)

في آخر السنوات وربما من النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي، سجلت الفونشة الاختفاء التدريجي من المشهد الفني وعدم ظهورها لسنوات طويلة، بسبب ظروفها الصحية ثم ابتعدت وتركت المجال نهائياً للتفرغ للحياة الأسرية، كما أكدت ذلك في حوارها الشهير على قناة 218.

(11)

تُودّع الفونشة اليوم المشهد الفني والثقافي الليبي عموماً، ويتساءل المهتمون عن أرشيف هذه النجمة التي رحلت جسداً لا روحاً وتركت الأثر عبر أغانيها، فكأي فنانة أو فنان في ليبيا تظل إشكالية الأرشيف والأرشفة.

وقالت الفونشة في آخر مقابلة لها إن لديها عديد الحفلات المُوثّقة رفقة فرقة الإذاعة الليبية موجودة في الإذاعات الوطنية الخاصة بالدولة، ولكن لا تُبث ولا تُعرض، مضيفة أنها دائماً ما كانت في مُقدّمة الحضور للمناسبات الرسمية للدولة، وغياب صوتها حالياً عن الإذاعات المسموعة والتلفزيونية غير منطقي ولا تعلم السبب من ورائه.

(12)

ترحل وردة ليبيا وإحدى مناهل البهجة في البلاد بانتظار أن يُنصفها المبدعون في غيابها كما فعل الأوفياء لها في حياتها بتجميع أعمالها في ألبومات أو إعادة إنتاج بأصوات أخرى، وإصدار كتاب عن مشوار حياتها الزاخر الحافل أو مسلسل درامي أو فيلم سينمائي.. ليبيا الثقافية تُودّع وردة نجماتها مَن أسعدت الناس لعقود وتركت بصمتها على خارطة الإبداع الليبي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى