حياة

سانية الوالي ( الكونتيسة )

زكريا العنقودي

مازالت ( الكونتيسة ) أو ( سانية  الوالي ) كما أطلق عليها في القديم عندما آلت ملكيتها من بيت (بودلوغوسة ) لأحدى (الأمراء القرماليين ) تسكن لصمتها المهيب خاصة ( وهي الشاهد المهم على مجريات العديد من أحداث  تاريخ ليبيا لأكثر من قرن ) فبعد أن اختارتها الكونتيسة ( فولبي ) كمستقر لها ولزوجها لتصنع له منها مقاماً يليق بوالي ليبيا ( الإيطالي )الجديد حينها .

زوجة الجنرال الذي خلف سلفه الإيطالي الجنرال ( كانيفا ) قائد اسطول الاحتلال والوالي الأول لطرابلس من قبل الملك الايطالي قبل أن يصل الفاشست لحكم إيطاليا بالتالي الاستحواذ على تركته (أي الملك ) من قبل ذوي القمصان السوداء، كانت حينها  المستعمرات الإيطالية الخجولة  منهكة من الحرب بل إن ليبيا في عهد (عامونيل ) كانت مستعمرة إيطاليا الوحيدة.. 

ليبيا والتي واجه أهلها آلة الغزاة الحديثة بصف واحد من مشاة وخيالة تاركين الحياة خلفهم..  كان استبسالهم رغم انعدام الإمكانيات يعادل (حنكة عسكر وحكمة ساسة )حين وصل الجنرال فولبي لم يبخل عليه المجاهدون بحصته من طيب  جهادهم ومسك استشهادهم، لم يحتمل الجنرال تلك الضربات الموجعه التي أنهكت ظهره لكن فولب كان يخفي جانبا آخر لشخصية جنرال غازٍ ومحبته وانصياعه لحضرة الكونتيسة، لذلك لم يكن ليُّحملها معاناته وجراح هزائمه، بل تركها في دعة أثناء كل هذه الأحداث لتكمل جنتها البيضاء المحاطة بالخضار وتستقر بها هي وجنرالها و(للأسف هذا ما لم تكتمل به الأحداث )   استقلت  الكونتيسة وبمزاج منعزل  وبحرص معماري محترف لتشيد  المكان كمستقر طويل الأجل لها وللكونت،  فاهتمت به وبكامل تفاصيله، بل ووقفت بحرص على أصغر نقوشه (الإسلامية في أغلبها ) فهي كانت حريصة على كل ما هو تاريخي من أصلها الأرستقراطي  وثقافتها العالية والذي جعل الكونت يختارها كشريكة لحياته فرض عليها هذا فجعلت من جنة أحلامها ترتفع كجزيرة  بيضاء وسط سواني وجنائن المنشية والتي كانت عبارة عن سور أخضر يغذي طرابلس وما حولها بصنوف الغلال.. كانت الكونتيسة في معمارها  ( غرناطية الطراز ) فجعلت من سورها اللامع بالبياض ليس من العلو بحيث يحجب الأشجار بل جعلته يقع تحت ظلالها كذلك السور الذي يفصله عن مزارع التبغ وغلال المواسم، والذي يجتهد جيرانها كل عام ليكون محصولهم منها ما يكفيهم مؤنة عام .

 

جعلته قصيرا بحيث يكون مكملا لما يحيط به من جنان لم تكن الكونتيسة تؤمن بالفاشية ولا بفكر المستعمر لذا كانت علاقتها بجيرانها غاية في الود والوئام، لذلك لم تكن لتحضر اجتماعات الجنرال التي يعقدها بالسر بالغرفة الكبيرة.. كانت تكره الحرب وتحب الأزهار حتى السور الذي سيجت به القصر كان قصيرا وهو الخر يرفل في البياض ولم  يحتو على  أدوات حماية ولا حبال شائكة، بل جعلت كل العاملين بالقصر وحديقته من الليبيين فقد كانت تؤمن بطيبتهم بل إنها في سرها كانت تؤمن بقضيتهم وهذا ما لم تخبر أحدا عنه، لكنها في الخلاصة كانت تثق بهم..  أمام حديقتها وبصفتها من جذور أرستقراطية، وزارات كل بلاد العالم بالسفن السياحية العملاقة المشهورة في حقبة العشرينات ( حقبة التيتانيك )والتي تعد ملاذا ومقصدا لأصحاب الثروات حينها، فاستغلت رحلاتها تلك لإشباع هوايتها الغريبة بعض الشيء، فقد كانت جامعة للبذور، فجمعت  لنفسها حصيلة من كل بذور العالم، وحين استقر بها المقام بطرابلس وشيدت قصرها أخرجت تلك البذور ونثرتها في حديقتها باحتراف مزارع، وصنعت لنفسها  حديقة كحدائق الريفيرا بفرنسا، ونمت تلك البذور وصارت  شجيرات وأصناف من الورود لم تكن ليبيا مناخ ليناسبها  لولا حسن استغلالها للماء الصادر من البئر الطرابلسية العتيدة ( ذات السالفتين ) والتي تركتها على معمار سالفها الأمير،  أصرت على تجديدها ليكمل تاريخ المكان، لم تكن الكونتيسة تحب أن تظهر بقصرها كهجين وسط أولئك المزارعين الذين يحيطون بها لذا حافظت على كل هذا الإرث.. فقد أضفت عليه لمسة العصر من ضرورات كـ ( الكهرباء ) … 

نعم كانت تلك البئر والذي لازال قائما الى الان (والتقطته العدسة )هو مصدر لكل تلك الجنان الملونة والتي كلما كبرت اخذ أريجها يجتاز حدود الحديقة ليعم المكان فيشتمه الجيران)  فصار لهم لكل موسم عطر ولون ..

وكما أسلفت لم تكن البئر وحدها التي تركت لها خصوصياتها المحلية  بل أكملت بناء القصر بأكمله وفق الأسس التي وضعها سلفها (الأمير) وبعد أن انتهى تشييد القصر كانت قد اختزلت فيه كل سنوات عمرها.. أقواس للحكايات وأفق للذكريات ومشاهداتها للعالم أثناء جلوسها على كرسيها المتأرجح بحديقته، فالقصر كان مهيبا ورغم اللمسة الإيطالية إلا أنها نجحت في أن لا يشوش ذلك عين الناظر، فهو يبدو للمشاهد أقرب للمعمار التركي وأبعد  قليلا لكي يكون معمارا إيطاليا .. كان من بعيد يشع  بياضا ينبثق من وسط باقة من الزهور متمثلة بحديقته ويكمل مهابته كونه شيد وسط خضار المنشية والذي انسحب بعيدا وترك قصر الكونتيسة وحيدا بعد ما سمي بزحف المدينة وما تبعها من ضرورات ظهور النفط فسمي الشارع الذي شق طريقه أمام القصر ( بشارع سيدي خليفة ).. 

لم يطل مقام (فولبي) بالمكان، فقد غادره غير مأسوف عليه  بعد عزله ومقامه بليبيا لعشر سنوات فقد أغضب الدوتشي نتيجة لهزائمه وللضربات الموجعة التي كالها له المجاهدون.. لذا استبدله بمغامر آخر اسمه المغامر ( بالبو) والذي لم يطب له الاستقرار بالقصر فهو مفتوح على الأهالي وغير محمي، وهذا ما أرادته الكونتيسة الرافضة لفكرة الحرب والاستعمار والفاشية  وصل (بالبو) لأن (الدوتشي) كان قد قرر توسيع مستعمراته والدخول في الحرب العالمية الثانية ، لكن (الكونتيسة) كانت قد اختارت خطها الخاص في كل هذا الذي يجري،  فقد نجحت  مع الوقت في إقامة علاقة ود حمّلتها كل رومانسيتها مع أهالي المنطقة تماما كما نجحت معه في استكمال المكان رغم ضخامة المشروع .

لكن ظل المكان وظلت شجيراته وزهوره المتعددة الألوان إضافة لحقل كبير للبرتقال في مواسمه، كان لوحة من لون البرتقال وبياض المكان حافظ القصر على جمالياته حتى بعد أن تغيرت الجغرافيا المجاورة  وصارت تلك الحقول الخضر لمزارعي التبغ والخضار  مربعات حجرية قطنها متتبعو أثر النفط .. ظل المكان طرفا وشاهدا على الكثير من تاريخ البلد.. فإضافة إلى إدارة فولبي لمعاركه ضد المجاهدين على مائدة مكتبه إلا أن الأمر لم ينته عند ذلك فعلى نفس المائدة جلست ألمانيا  النازية حليفة إيطاليا في محاولاتها الأخيرة للخروج من بين فكي الجنرال ( مونتغمري ) بعد هزيمتها للزحف على مصر وكذلك لصد غريمه الزاحف غربا من بلاد المغرب الجنرال ( باتن ) .

بعد هزيمة المحور لم يسكن القصر للصمت بل تحت ظلال حديقته جرت  حتى الكثير من اجتماعات الآباء المؤسسين للاستقلال نجحوا كثيرا في ليبيا ما بعد الحرب تحت وارف ظلال شجيراته ( كما يذكر المشيرقي في مذكراته عن تلك الحقبة ) ..ظل المكان شاهدا وشريكا حتى بعد أن عادت إليه حفيدة (الكونتيسة ) لتعيد له الروح في فترة الخمسينيات ( ما بعد الاستقلال ) فأينعت زهراته من جديد وعاد للمكان لمسته الأنثوية وبعده الرومانسي نتيجة لاتباعها خطى جدتها والتي أضفت على المكان الكثير من المهابة والسحر .

بعد 1969 استغل المكان لفترة كـ (متحف إسلامي) ثم شمله قرار بضم مقتنياته للمتحف الكبير( بالسراي ) أغلق المكان بعدها وانكفأ على نفسه وخضع لهيمنة الشركات المتعددة والتي تعاقدت على صيانته لكنها لم ترحم هيبته ولا وقار شجيراته  فقطعتها.. بل لم ترحم حتى حقل البرتقال لكن حين التقطت هذه الصور كانت بعض تلك الشجرات قد عاندت وبحزم رهيب تلك العتمة والأقفال مستغلة آلية الزمن وبطء حركة التاريخ في ليبيا  لكي ينجح بعضها في النمو من جديد …

ما زال المكان رغم أنه ( يعاني العبث والإهمال ) باقيا شاهدا وطرفا شريكا  في صياغة تاريخ ليبيا لكن للأسف لم يستمع أحد إليه بعد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى