أخبار ليبيا

بين كاتبين : العوكلي يعقب على بوشناف حول القبيلة وقانونها ومفارقاتها

تعقيبا على مقالة الكاتب منصور بوشناف المهمة "القبائل المتربصة" المنشور بموقع (218 في 14 نوفمبر 2015) والتي يحذر فيها من تسييس القبيلة ومحاولة إجهاض مشروع الدولة الوطنية، أحب أن أؤكد على بعض المداخلات فيما يتعلق بهذا الصراع الذي عانت منه ليبيا منذ أن بنت الحضارات الكبرى مدنها على الساحل الليبي، وشيدت أسوارها في وجه القبائل الليبية فاتحة أبوابها على البحر.

 

في زيارة لقرية الفائدية بالجبل الأخضر، منذ سنة تقريبا، وجدت الحديث يدور عن مشكلة في القرية تقام حولها المواعيد الاجتماعية بتدخل الحكماء، وكانت حديث الساعة، وتتلخص المشكلة في أن شابا قتل كلب أحد سكان القرية، ولأن العرف لم يصل إلى حل للمشكلة أحيلت القضية إلى النيابة العامة في البيضاء وأخذت رقما كقضية جنائية . وكنت مأخوذا بهذا الترف الاجتماعي أنا القادم وقتها من حاضرة درنة التي قتل فيها أكثر من مائتي مواطن ومواطنة، بين قضاة وناشطين سياسيين وضباط شرطة ورجال أمن وغيرهم، قتلوا في درنة دون أن يعرف قتلتهم أو يقام حولهم ميعاد قبلي أو تسجل قضاياهم في النيابة.

 

هذه المجتمعات التي اقترحت قوانينها الخاصة، التي لا تخلو من أبواب لحقوق الإنسان، كانت تسعى في أزمنة اللادولة، وغياب القانون والجهات المطبقة له، لأن تنظم حياتها ومصالحها، وأن تجعل حياة الإنسان مقدسة وثمينة، وحياة الحيوان أيضا، وأن تجعل حرمة البيت والنساء أساسية وعقوبة اختراقها مكلفة معنويا وماديا، وأن تكفل حماية (الجالي) أو من يطلب لجوءا إنسانيا عند قبيلة أخرى فلا يمسه سوء طالما هو في حمايتها، وأن تجعل العنف الجريمة الكبرى التي تَجُبُّ ما عداها حين تعتمد مبدأ : الدم غطى العيب . هذه المجتمعات، وعبر خبرة قرون، سعت من خلال هذه المواثيق الاجتماعية لكرامة الإنسان ولتحقيق السلم الاجتماعي، وعوضت بمظلتها غياب الدولة بمفهومها الحديث، والتي لم نرَ بوادرها إلا في فترة ما بعد الاستقلال، بعد الاحتلال الإيطالي والإدارة الإنجليزية، التي هيأت في مجملها المجتمع إلى حد كبير لاحترام سلطة الدولة ومهابة الحكومة والتمثيل القانوني، لذلك حين جاءت الملكية لم يقابلها الكثير من العناء في استجابة المجتمع لمفهوم الدولة الحديثة، وظلت القبيلة رديفا اجتماعيا لدولة القانون. هذا ما حدث فعلا رغم احتفاظ المجتمع ببنيته المتأصلة، والتي كانت وقتها تلعب دورا جزئياً في في العملية الانتخابية في غياب الكتل السياسية، وكانت من جانب آخر تشكل المفهوم الجوهري للمجتمع الأهلي، وليس المدني، المتعلق بالتكافل الاجتماعي وفض النزاعات الممكن عرفيا.

 

بقراءة لبعض الوقائع التاريخية والراهن نخرج بثلاث مفارقات ملفتة من شأنها أن تجعلنا نرى المشاهد من زاوية أخرى .

 

المفارقة الأولى: وهنا ،على الأقل، أتحدث على مستوى الشرق الليبي، الذي تختلف فيه طبيعة الديموغرافية القبلية عن الغرب، حيث لا يوجد ما يسمى المدينة القبيلة بالمعنى الدقيق، كما أشار بوشناف في مقالته ، وهذا الاختلاف هو ما جعل النظام السابق يحاول مرارا تكريس هذا المظهر، المدينة/القبيلة، عندما اجتمع بقبيلة العواقير وطلب منهم استعادة مدينتهم بنغازي، وكذا فعل مع العبيدات لاستعادة مدينتهم درنة، لكن محاولاته فشلت، وأقصى ما استطاع أن يفعله تسمية قرى باسم أغلبيتها القبلية، مثل توكرة التي أطلق عليها اسم (الدرسية) وطلميثة التي سماها (العقورية)، المفارقة ، كون المدن أو الحواضر التي ذكرها منصور هي التي أصبحت مرتعا للجماعات المتطرفة، بينما عجزت هذه الجماعات عن اجتياح الجغرافيا ذات الولاء العشائري، والسبب أن القبيلة أتوماتيكيا تستدعي قوة تلاحمها وقوانينها الرادعة بمجرد أن تتراجع سلطة الدولة ويحصل فراغ أمني أو قانوني.

 

المفارقة الثانية: الأحزاب أو الكتل السياسية في ليبيا هي التي عملت على تسييس القبيلة بالمفهوم اليمني، كأداة للحشد في غياب أدوات أخرى مثل الطائفية، فالعمل الحزبي الذي استعان بالحشد القبلي وكاد أن يقسم ليبيا في نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات من القرن الماضي هو من يقرب ليبيا من سيناريو التقسيم الآن، وأعني خصوصا حزب العدالة والبناء الذي اتخذ مدينة مصراتة معقلا له وقام بحشد قبلي لشن حروبه على مناطق مختلفة، بعد أن أدرك أن لا حظ له في سياسة التمكين عبر الانتخابات التي خسرها جميعا وهو في ذروة إمكاناته ودعايته، والمشكلة تكمن في أن ثمة أشخاص يستخدمون القبيلة من أجل مصالحهم الشخصية مثلما حدث في المبايعات القبلية للقذافي، لكن مثل هذه المظاهر الانتهازية لا تعكس حقيقة الولاء القبلي الذي شكل مرارا رافدا لتعزيز النسيج الاجتماعي والوطني، بل كان تاريخيا الركيزة الأساسية لمقاومة الاحتلال وللحفاظ على اللحمة الوطنية عبر مواثيق المصالحة الشهيرة.

 

المفارقة الثالثة: أن هذه الحواضر التي وقعت بسهولة تحت سيطرة الجماعات المتطرفة (بعضها مستسلم وبعضها يقاوم) هي التي تصدر منها البيانات تباعا التي تحرم الديمقراطية والمواطنة والمجتمع المدني وتكفر مؤسسات الدولة جميعها، بينما بيانات الاجتماعات القبلية تؤكد على الحفاظ على المسار الديمقراطي واحترام الشرعية والوحدة الوطنية، وجميع هذه البيانات موجودة على شبكة الإنترنت، وبالتأكيد ثمة أسباب معقدة تكمن خلف هذه المفارقة، ربما يحال بعضها لكون المزاج المحافظ في المدينة من شأنه أن يكون حاضنا للميول الراديكالية بعكس المزاج المغامر لمن هم خارج المدينة، وربما هذا هو الدافع الذي جعل القيصر بطرس يختار بطرس بيرغ مكانا لمشروعه التحديثي حين عجز عن إنجازه في موسكو حيث تصادم فيها مع مؤسسات العقل المحافظ. بينما يشير ديورانت في كتابه، قصة الحضارة، لهذا المنحى عندما يعتبر أن الثقافة تولد في كوخ الفلاح لكنها لا تزدهر إلا في المدينة.

 

القبيلة ليست مرحلة يمر بها مجتمعنا، لكنها جزء بنيوي من تكوينه، قابلة للاحتواء والهضم والتطور، ويمكنها أن تمنح الطريق لمؤسسات الدولة حين تكون هذه المؤسسات أكثر قوة وإقناعا من اجتهاداتها، مثلما فعلت من قبل، تتراجع دون أن تنمحي، مع أن البعض يقول أن التقدم الصناعي هو من يفتت القبيلة التي افرزها المجتمع الرعوي، والبعض يقول أن الأحزاب والعمل النقابي هو التعويض للفرد كي يتخلى عن قبيلته لصالح عضوية أخرى، والبعض يقول أن الذات المستقلة قانونا ليست في حاجة لأن تنتمي لقبيلة تحميها، وكل ذلك يملك جزءا من الحقيقة، لكن الكثير من الحقيقة في كون بنية مجتمعنا قبلية، وهو أمر متعلق بالتاريخ وبالهوية وبنرجسية الذات وتجذرها في مواجهة العزلة والهشاشة، هكذا تقول الخبرة الطويلة، وليس من الحتمي أن نربط هذه الخبرة أو الخصيصة بالتخلف مثلما أوهمتنا أدبيات الاستشراق القادمة من مجتمعات لها بناها الاجتماعية وخصائص تكوينها المختلف الذي لا يخلو من العنصر العرقي.

 

ويظل الحذر مصدره الخوف من أن تحل القبيلة محل الدولة، لكن إذا ما اعتبرنا الدين جزءا من تكوين وثقافة مجتمع فالقبيلة قد تكون أيضا، ويكمن المحذور في حالة تسييس الدين أو تسييس القبيلة، ومثلما يتطلب الأمر تجنيب الدين الإحراج بإخراجه من المجال العام وتحوله إلى ضمير شخصي، يتطلب تجنيب القبيلة الإحراج بإبعادها كأداة تلاعب في المجال السياسي والعودة بها لأن تكون الضمير الاجتماعي، وهذا هو المحك الحقيقي لأسس بناء الدولة المدنية الحديثة دون تجاوز خصائص المجتمع وطبيعة بنائه الاجتماعي المتجذر.

 

أما فيما يتعلق بمفهوم المدينة، فمن المفترض أن تتخلل هذا المجتمع القبلي حواضر مدنية، مثل التي أشار إليها بوشناف في مقالته، من شأنها أن تؤسس للمدينة الميتروبولية التي تصدر قيمها إلى المحيط وليس العكس، ولكن، لأن مدننا المعاصرة ترث سيكولوجية مدن الغزاة القديمة التي قفلت أبوابها في وجه المحيطين بها، أو لأنها شبه مدن ولم تصل إلى المفهوم الميتروبولي أو المدينة كقطب حضاري مركزي ، عجزت عن تصدير نفسها وتهاوت أمام الهجرة من المحيط حين تكدست مصالح الناس في قلب المدينة، حيث لم نكتشف بعد ما يسمى بالتنمية المكانية، ولا العلاقة المتوازنة بين المدينة وريفها، ولا العمل على جعل خصائص المجتمع مصدر طاقة لحراكه نحو المستقبل، وليس عبر تكريس العلاقة العدائية التقليدية بين المدينة ومحيطها التي اكتسبت وجاهتها وحيويتها من كثرة تكرارها.

 

لا نريد أن نجعل من خاصيات مجتمعنا ذرائع نبرر بها إخفاق مشاريعنا، في حين من الممكن أن يكون استبصارها وهضمها منطلقا للتقدم المتوازن عبر حقن قيمها النبيلة بالقيم الحديثة، مثلما حدث في مجتمعات عريقة مثل الصين أو اليابان، أو غيرها من المجتمعات التي عانقت العصر وهي في ذروة تشبثها بخصائصها الاجتماعية والثقافية.

 

حينها قد نحظى بمجتمع حديث يصبح فيه قتل كلب جريمة كبرى يعاقب عليها القانون وليس العرف فقط.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى