اهم الاخباركتَـــــاب الموقع

الثورة الملعونة

فرج عبدالسلام

ألحّ صديقٌ عزيزٌ عليّ ، لإعادة نشر مقال “الثورة الملعونة” الذي كنتُ قد نشرته في موقع المستقبل، منذ سنوات خمسة بالتمام والكمال.

ولأن الأمور قد ساءت كثيرا منذ ذلك التاريخ، بل وتحوّلت إلى كارثية تهدد بانقسام الوطن، فمن المهم أن نشير إلى أن ما ذكرته كان في الشهر العاشر من عام 2014 وكان قبل استفحال الأوضاع، والبروز المرعب الحالي لأجسام شاذة متناقضة مثل مجلسي النواب، والرئاسي، والوفاق، والكرامة، وبركان الغضب، ومجلس الدولة، وكثير غيرها.
المقال:

بطبيعتي، ومثل كثيرين غيري، لا أحب العنف وأتجنب قدر الإمكان مشاهِده الحيّة أو المصوّرة لأن النفس الإنسانية السويّة تعافُ هذا السلوك.

لكن صديقا لي نبّهنى إلى الأرضية الهشة والزلقة التي يقوم عليها منطقي ورؤيتي للأمور، وأنا الذي كنتُ على الدوام أجدُ بعض العذر لليبيين الذين تعرّضوا للقهر والضيم طوال أربعة عقود، وبالتالي عزونا بعض التصرفات آنذاك بأنها نتيجة طبيعية، مثل ما جرى في كل الثورات العنيفة، وأنها محض ردود أفعال تجاه من ساموهم سوء العذاب. لكنني رأيتُ، ويشاطرني في هذا الكثيرون أن ذلك العنف كان يجب أن يتوقف في العشرين من أكتوبر 2011 وأن تقوم دولة الحق والقانون، فهي الكفيلة بمحاسبة الباغين وردّ المظالم.

طبعا كانت تلك مجرد أمنيات وكنا شهودا على تجاوزات وفظاعات ارتُكبت في ليبيا الجديدة باسم الثورة أو تحت عباءتها. لقد كشّر الجانب القبيح من الشخصية الليبية الكامن بداخلنا عن أنيابه، وحمل معاول الظلم والفساد والإفساد والجشع، واخترق كل الخطوط بكافة ألوانها، إلى الحد الذي كنا نتساءل فيه بخجل هل هؤلاء ليبيون حقا؟ وهل يجمعنا وإياهم وطن واحد وتاريخ واحد وثقافة واحدة وما إلى ذلك من المشتركات التي تجمع شعبا ما؟ أقول هذا، وأنا مدركٌ أنّ لدي البعض رأيا يحمِل بعض الصواب، مفاده أنّ ما يجري اليوم من بشاعة في وطننا قد زرع بذورها، بل وأصّل لها وروّج لها نظام الاستبداد السابق.

بعث لي صديق بالفيديو الموجود في الرابط المرفق، وشاهدته على مضض وبأسى شديد عندما رأيتُ أبناء وطني يقهرون ويُذلون. فتدافعَ سيلُ الأسئلةِ الموجعة والمربكة إلى عقلي وكياني، ملحّا عليّ لإعادة ترتيب قناعاتي ورؤاي كلها.
في البدء ومن خلال متابعتي للشأن العام، يمكنني أن أتخيل، بل وأجزمُ أن هناك الآلاف من الروايات المروّعة والأكثر مأسوية مما يظهر في الفيديو الحالي. وهنا تبرزُ جملة التساؤلات التالية:

هل من أجل هذا قمنا بالثورة على ما رأيناه نظام بغي واستعباد واستبداد، وهدرٍ لطاقات الوطن ومقدراته؟ أمِن أجل هذا فقدنا عشرات الألوف من الأرواح الخيّرة من أهل ليبيا سواءٌ منهم الذين يصنفون بالثوار، أو من الذين وجدوا أنفسهم بشكل آخر في الطرف المقابل ويدافعون عن نظام البغي، أو من المدنيين الذين قضوا قصدا أو مصادفة من هذا الطرف أو ذاك؟

أجزمُ أن الليبيين لم يقوموا بالثورة ليروا كل هذا الخراب وهذه البشاعة في بلادهم… لم يقوموا بالثورة ليُصدَموا بالأداء الباهت لأول جسم منتخب من الشعب بمهام محددة، ليفاجؤوا بانحرافه المبكر عن مهامه، بل صار أداؤه سلبيا لا يعكس تطلعات الناس. وفي النهاية دبّسهم في حيط.

لم يقوموا بالثورة وهم يرون المليارات تبدّد وتسرقُ أمام الله وعبده… ولم يقوموا بالثورة ليروا أحد كبارهم من الذين كانوا يقررون مصيرهم في المؤتمر وهو يصيح بفخر “الله أكبر النيران تشتعل في المطار”.

لم يقوموا بالثورة ليشاهدوا العشرات من الأرواح  الوطنية النبيلة تزهق بالجملة في أحداث غرغور، وجمعة إنقاذ بنغازي، والكويفية، وكثير غيرها. ويظل الفاعل مجهولا بلا أمل في محاسبته إلى قيام الساعة.

لم يقوموا بالثورة ليعيث (الثوار) السابقون من مدن أخرى ومن أشباههم في طرابلس، ويسومون أهلها سوء العذاب، ويسرقون ويخطفون وينهبون تحت راية الثورة، ليأتي بعد ذلك من يطردهم بحجة التحرير وإطلاق فجر أهبل كسيح، فيدمر مقدراتِ العاصمة ومدنا أخرى ويقهر أهلها بشكل أكثر قسوة، ويكمم أفواه الناس باسم فبراير.

لم يقوموا بالثورة ليروا الاغتيالات المجنونة للعسكريين ورجال الأمن والقانون وغيرهم، لمنع قيام الدولة حتى تخلص لهم الساحة ليمارسوا تسلطهم وإرهابهم.

لم يقوموا بالثورة  ليروا قتل الناشطين السياسيين والإعلاميين وغيرهم الذين لا يملكون غير الرأي والكلمة الصادقة، وفي أحسن الأحوال يخطفونهم ويعذبونهم ويغيبونهم إلى ما شاؤوا.
لم يقوموا بالثورة ليروا إخوتهم الليبيين نازحين أو مهجرين بمئات الألوف داخل البلاد وخارجها، وتغادر الكثيرُ من الكفاءات البلاد بلا أمل في العودة إليها.

لم يقوموا بالثورة ليروا وطنهم يتشظى إلى أجزاء وأقاليم قد يصبح من العسير لملمتها، وتُخلق صراعات وأحقاد بين مكوّناته ستدوم لأجيال عديدة. لم يقوموا بالثورة ليروا شبابهم الذي يعوّلون عليهم لبناء ليبيا الجديدة وهم ينضوون تحت لواء التخلف والإرهاب ويمارسون أبشع أنواع القتل والتفجير، ويقولون لأهلهم ومواطنيهم الذين طالما عُرفوا بالاستقامة والتدين “أبشروا لقد جئناكم بالذبح”ويستقوون عليهم بأجانب يسمونهم رجال توحيد، أو يقومون بهدم وتخريب تراثنا وآثارنا الجميلة دون وازع أو سلطة ردع.

إنّ ما يجري الآن ومنذ ما يُسمى بالتحرير أسوأ بعشرات المرات مما كان يجري تحت راية الاستبداد في النظام السابق، ويجب الاعترافُ بهذه الحقيقة، فقد يكون ذلك بداية للسير نحو الخلاص. وفي النهاية ألا يحق للمرء أن يرفع عقيرته بالصراخ ويعلن بقوة ما يعلنه كثيرون على استحياء: يلعن أبو الثورات اللّي هذى سيرتها، واللّي تخلي وطن يريح في داهية، ومواطنين أبرياء يتعرضون إلى القهر والعسف وإهدار كرامتهم الإنسانية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى