اخترنا لككتَـــــاب الموقع

حروب الهلال النفطي “هبة الله”

سالم العوكلي

نهاية القرن الثامن عشر، كانت السفن الليبية والجزائرية  تقوم بحماية السفن التجارية من القراصنة المنتشرين في المتوسط مقابل إتاوات تدفع لها ما جعل من البحر المتوسط شبيها بمضيق بحري يفضي إلى العديد من الموانئ التجارية الهامة لصادرات الولايات المتحدة خصوصا ووارداتها في فترة التأسيس لاقتصاد أمريكي عولمي سيصبح بعد قرن من أقوى الاقتصادات فوق الأرض محميا بأقوى أساطيل العالم، وفي هذا المنحى كانت الشواطئ الليبية هي مركز المعركة الاقتصادية الكبرى الأولى وهي الوجهة لأول أسطول بحري أمريكي ولأول حرب خارج أرض الولايات المتحدة للمارينز الذي مازال قيد الإنشاء .

وبرغم أن السفن الليبية (القرمانلية) قامت بحماية السفن الأمريكية لمدة عام كامل إلا أنها لم تتحصل على مقابل مجز مقارنة بسفن جارتها الجزائر ، وانتهزت القوة العظمى ، بريطانيا، هذا الشعور بالإجحاف لتصفي حساباتها مع عدوتها التقليدية آنذاك التي كانت تخوض معها حربا باردة على مناطق النفوذ ، فنصحت عبر قنصلها في طرابلس “لوكاس” يوسف القرهمانلي، حاكم ليبيا آنذاك، ليقوم بتعديلات في شروط معاهدة الحماية مع الولايات المتحدة. وفي عام 1801 طلب يوسف باشا من الرئيس جيفرسون المنتخب حديثا كثالث رئيس لأمريكا المستقلة تعديل معاهدة حماية التجارة الأمريكية وزيادة الرسوم المدفوعة إلى 250 ألف دولار سنويا، لكن جيفرسون الذي كان يستكمل أعمال تجهيز أسطول الحماية للتجارة الأمريكية تجاهل هذا الطلب. وحين تورط القرهمانلي الذي كان يمارس أعمال القرصنة والحماية في الوقت نفسه في هذه اللعبة الخطيرة، وبعد أن أصدر الكونجرس الأمريكي قانونا لحماية التجارة الأمريكية وسفن الولايات المتحدة في السادس من فبراير 1802 ، صدرت الأوامر من الرئيس الأمريكي، جيفرسون، إلى الأميرال، ريتشارد ديل، أحد أبطال حرب الاستقلال الذي يتمتع بخبرة كبيرة في مجال البحرية العسكرية، ليقود حملة تتوجه إلى الشواطئ الليبية عبر أول أسطول حربي أمريكي يجوب البحار، لكن يوسف ــ المغرر به  من قبل قنصل الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس ــ تمادى في غيه وكان قد أعلن الحرب على أمريكا بإيعازه لجنوده كي يحطموا سارية العلم الأمريكي على القنصلية الأمريكية، لتنطلق قوارب القرصنة القرمانلية في المتوسط بحثا عن السفن التجارية الأمريكية، بينما خط على جدار القنصلية عبارة أن أمريكا ستشرب الماء المالح على الشواطيء الليبية ، وهي العبارة التي ترجمها القذافي الممسوس بروح يوسف باشا بعد قرنين عبر عبارته الشهيرة “طز طز في أمريكا” وباعتبار “توز” تعني الملح في اللغة التركية مضيفا عبارته الشهيرة “نحن والأسماك في انتظاركم” ، وهو أيضا دفع فيما بعد ثمن هذا التعنت والغطرسة لينتهي حكم الأسرة القذافية كما انتهى حكم الأسرة القرهمانلية الذي كان يقلدها في كل شيء.

حصل الصدام بين الأسطول الأمريكي والسفن الليبية بين كر وفر ، حيث أسرت أكبر سفن الأسطول الأمريكي “فيلادلفيا” ببحارتها في طرابلس ، وأطلق عليها يوسف باشا اسم “هبة الله”

وفي ليلة 16 فبراير 1804 قامت وحدة من المارينز متنكرين في زى بحارة مالطيين بالتسلل إلى موقع السفينة الأسيرة وقاموا بإحراقها. وقتها علق البابا بيوس السابع على العملية بالقول إن “ما فعله الأمريكيون من أجل المسيحية أكبر مما فعلته أقوى دول العالم المسيحي على مدى عصور عدة”.

خسرت أمريكا جزءا من معركة لكنها في النهاية كسبت الحرب ودقت أول مسمار في تعش الدولة القرهمانلية، بينما المملكة المتحدة التي ورطت يوسف باشا في هذه المواجهة غير المتكافئة تخلت عنه حين بحثت في مكان آخر عن ما تبقى من مصالحها مع الإمبراطورية الجديدة التي بدأت تعلن عن نفسها بقوة .

أذكر هذه الأحداث التي جعلت من الشواطيء الليبية مكان حروب قبل أكثر من قرنين نظرا لأهمية موقع ليبيا، كي أوجه النظر إلى ما يحدث الآن من صراعات بين القوى الكبرى والقوى الإقليمية المساندة على الشواطي الليبية، التي أصبحت تصدر للشاطئ الآخر المهاجرين المكيلين بالسترات الحامية من الغرق مثلما كانت تصدر في تلك الفترة سفن العبيد المكبلين بالسلاسل، وليظهر هذه المرة في سماء الصراع هلال جديد يسمى الهلال النفطي الذي لا يرى العالم من ليبيا سواه .

نحن نتحدث عن الغرب والشرق والجنوب، وعن الوحدة الوطنية أو الفيدرالية أو الأمن القومي أو الشعب الليبي أو حدود الدولة أو النسيج الوطني أو المدن والقبائل، لكن ميكروسكوب القوى التي تتحكم في مصيرنا لا ترى سوى هذا الهلال ولا ترى سوى القبائل التي شاءت الجغرافيا أن يكون الهلال تحت أقدامها.

هذه القوى التي تتشدق بالديمقراطية والدولة المدنية والشرعية لا تنفك تتعامل مع ميليشيات التهريب وحتى المجموعات المتطرفة التي ترى أنها الفاعلة على الأرض أو أنها المهيأة للانصياع لأوامرها وهي تحت رهابها من الجيش الليبي والخوف من توحيده، تتعامل علنيا مع أمراء الحرب ورؤساء الميليشيات ، من العمو إلى البقرة إلى الجضران، رغم أنها تعرف أنهم مجرد عصابات خطف وتهريب للبشر وللوقود ولكل مقدرات هذا الشعب .

في مناطق يحكمها القراصنة ويسيطرون على معظم شواطئها لا يمكن أن تكون النهاية إلا كنهاية الدولة القرهمانلية التي حكمت ليبيا بغزاة أتراك تخلو عنها مثلما تخلوا عنها للغزو الإيطالي الفاشي ومثلما مازالت تركيا تدعم قراصنتها في ليبيا وحتى تاريخ كتابة هذا المقال.

النفط نعمة لكنه تحول لشعب محروم منه إلى نقمة يدفع ثمن تناحر الانتهازيين عليه من الداخل والخارج. النفط “هبة الله” لكنه مثل السفينة الأمريكية فيلادلفيا التي سماها يوسف باشا “هبة الله” فتحولت فيما بعد إلى لعنة قضت على حكمه ودولته . وللأسف في جميع الأحوال كان صاحب الشأن (الليبيون) مجرد متفرجين ومنتظرين لهبة من الله تعيد لهم حياتهم .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى