كتَـــــاب الموقع

ويستمر النزيف

سالم العوكلي

منذ عقدٍ وشوارع عربية تكتظ بالمحتجين، والحلم واحد، هو اللحاق بالعالم عبر مواثيق دستورية جديدة تجعل الناخبين مصدر الشرعية، والتداولَ للسلطة سلميا، والفصل بين السلطات ركيزة هذا الميثاق.

أعتقد أن هذه هي المطالب المشتركة لتلك الشوارع التي نادت بأشكال ومستويات مختلفة بسقوط النظم التقليدية، بدايةً من تونس مرورًا بمصر واليمن وسوريا وليبيا والجزائر وموريتانيا والسودان، وكل تجربة احتجاج أفضت إلى نتائج مختلفة.

ويظل السؤال: لماذا تترنح هذه الأهداف التي استيقظت في الشارع العربي مع جيل انفتح على العالم وتحرر من خرافة (ليس بالإمكان أبدع مما كان) ولماذا في كل ثورة أو احتجاج تُسرق أحلام الناس ورغباتهم؟ ومن يسرقها؟ ولماذا كل مرة يعود إلى الواجهة أكلة أحلام الناس ولحومهم؟

في رواية “حفلة التيس” شبه التوثيقية، للبيروفي ماريوباراغاس يوسا، يستدعي واقعة تقطيع رجال مخابرات طاغية الدومينيكان، تروخيو، لأحد معارضيه، غير أن التشفّي لم يقف عند هذا الحد، بل اعتُقِل والد المعارض، وجُوّع لأيام عدّة، ثم أحضروا له وجبة دسمة من اللحم، وبعد أن تناولها أخبروه أن ما تناوله لحم ابنه المعارض، في إشارة إلى أن هذا النوع من الطغيان ينتمي في حقيقته لزمن أكلة لحوم البشر.

ما يجعل منظومات الحكم التقليدي تصفّي معارضيها؛ هو إصابتها بوسواس قهري ناجم عن شعور دفين بأنّها تحتل مجالاً سياسياً دون وجه حق، أو ما يمكن اختصاره بإحساسها العميق بفقدان الشرعية، مهما حاولت أن تستجدي شرعياتها المزيفة من السماء أو التاريخ، أو القوة، أو المشروعية، أو قدرتها على حماية القطيع الذي تملكه.

ولأن لحم أكتاف الرعية هبة من الحكام× فهم لا يتورّعون عن تقطيعه، أو وضعه في ثلاجات لسنوات طويلة، إذا ما خالف صاحب هذا اللحم رأي السلطة أو انتقدها، وهذه العلاقة بلحم الرعية تعيدنا إلى زمن آكلي لحم البشر، دون الحاجة إلى استعارة أو مجاز أو تورية.

كانت شرعية الحكام العتيدين تتأتّى من مصادر غيبيّة بتفويض النخبة القريبة للحاكم، التي تتحوّل تلقائياً إلى حاشيته، عبر ما يسمّى المبايعة التي عادة ما تديرها المؤسسة الدينية في حلفها التقليدي مع السلطة السياسية الحاكمة، أو عبر الغلبة بالقوة التي غالباً ما تمر عبر بحر من الدماء، وأيضاً تبارك السلطة الدينية هذه الغلبة تحت شعار أن الحاكم مرسل من الإله، أو أن الحاكم ولي أمر تجب طاعته، بصرف النظر عن الطريقة التي وصل بها إلى السلطة، أو عمّا يقترفه من جرائم تجاه رعيته لأنها جرائم تقع تحت بند العقاب الإلهي للرعية الضالّة.

مع الترقّي الإنساني، وفتوحات العقل البشري في العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية؛ انحسرت هذه الشعوذة السياسية التي استسلم لها لفترة طويلة عقل شعبي موقن بذاك المنبع الخرافي للسلطة، الذي يتطلب منه نوعا من العبادة والورع، وبدأت المجتمعات عبر نخبها تسعى إلى نظم حكم جديدة عبر إعطاء الشرعية للسلطة من قبل الناس(الناخبين)، الذين يشكّلون الطرف الأقوى في المعادلة. النظام الشرعي هو النظام السياسي الذي يصل إلى السلطة عبر رغبة الناس التي يعبر عنها بالاستفتاء، أو بالانتخابات الحرة النزيهة، والنظام الشرعي وفق هذه الإرادة الشعبية؛ يجب أن يكون حكمه مؤقتاً ومحدداً بسقف زمني، وعرضةً للنقد والمساءلة وفق دعم دستوري.

الغريب أن كل منظومات التسلط المغتصب لحق الناس في الاختيار، التي انتهت نهاية مأساوية، سواء كانت إمبراطورية أو ملكية أو إقطاعية أو جمهورية، انتهت وتحت أقدامها مقابر جماعية من ضحاياها، من أصحاب الرأي المخالف أو المعارضين الذين صفّتهم من أجل ألَّا تنتهي، فكل حكم غير شرعي لا يتوقّف عن سحق معارضيه، رغم إدراكهِ بأنّه ذاهب في كل الأحوال إلى نهاياته المأساوية.

فتك هتلر بكل من يعارضه، أو يهمس بنقده في عشاء عائلي، وانتهى منتحراً هو وزوجته وكلبته المدللة، تاركا خلفه مقابر جماعية تحوي عظام كل من عارضوه، أو حتى أسدوا له النصح.

علَّق الشعب؛ الذي طالما تحدّث باسمه، موسيليني من أقدامه، بعد عقود من تصفية مخالفيه، والفتك بكل رأي ناقد.

اختبأ صدام الذي صفّى كل معارضيه، حتى من أقاربه وأصدقائه، في حفرةٍ بعد أن أسقطَ شعبُه تماثيلَه الكلسية المنتصبة في ميادين العراق، وسقط في حفرة إلى ثقب عميق في التاريخ، كم الْتَهمَ طغاة فعلوا كل شيء من أجل أن يبقوا في الحكم فوق هرم من الجماجم.

في ماسورة تصريف المياه بمسقط رأسه؛ انتهى القذافي الذي كم لاحَق معارضيه ومنتقديه في كل أصقاع العالم، وأعدم وصفى وذبح وسجن وخطف كل من طالته يد آلته البشرية المتوحشة “اللجان الثورية”.

تشاوسيسكو أيضاً، والتاريخ زاخر بهذه النماذج التي دفعت ثمن طغيانها غالياً.

والسؤال: لماذا تستمر الأنظمة في تقنية العنف نفسها؟ ربما لأنهم يجيئون من سرد الخرافة وليس من سرد التاريخ، حيث العبرة مرتبطة بالإحساس بقسوة التاريخ، غير أنه في جميع الأحوال، الإحساس العميق بفقدان الشرعية هو ما يؤدي إلى هذا السعار، وإلى هذا التكرار.

والطبقات السياسية التي ركبت على ظهر الربيع العربي؛ تُعيد إنتاج هذا التراث، والفارق أنها بدأت تدرك أن الشرعية لم تعد محلية، وكل الطبقات السياسية العربية، تتصارع على الشرعية التي توهب لها من الخارج، وكل حكومة تسمى حكومة توافق وطني هي في الواقع حكومة توافق دولي.

وهذا ما حدث ويحدث في ليبيا، كل جسيم يسعى للاعتراف الدولي ليتباهى به، حتى وإن كان يعيث خراباً وفساداً في الداخل.

ولن يتوقّف هذا النزيف، ولا نهم آكلي لحوم البشر من الطغاة، حتى نرتقي إلى طور حضاري جديد، حيث لا يكون الإنسان إنساناً إلا بقدر ما يكون مواطناً، وبكل مكتسبات مفهوم المواطنة المدسترة.

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى