مقالات مختارة

ويحدثونك عن الجدران …

إياد أبو شقرا
«الإنسان يبني الكثير من الجدران والقليل من الجسور» (جوزيف فورت نيوتون) مع حبس العالم أنفاسه ساعة بساعة في انتظار قرارات صادمة يتخذها الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترمب، جاء أبلغ تعليق على إصرار ترمب على بناء جدار عازل على طول الحدود الأميركية المكسيكية من الرئيس الإيراني حسن روحاني. هنا نحن أمام مفارقة فظيعة. مفارقة بل مفارقات في قراءة التاريخ، وفهم آليات السياسة، واستشراف المستقبل والإعداد لمواجهة تحدياته. ترمب، رجل الأعمال الثري، يتصوّر اليوم مع خطواته الأولى في عالم السياسة أنه يجلس على كرسي رئيس مجلس إدارة شركة، ويقول كُن فيكون، لأنه شخصيًا أو مَن يمثّل، يملك حصة غالبية من أسهم الشركة التي يدير… ومن ثَم فما يقوله يمشي وما يأمر به ينفذ.
وترمب، الرئيس المَدين بفوزه لليمين الديني الذي يؤمن بأن العالم مقسوم إلى فسطاطين، أحدهما خيّر والآخر شرير، أيضًا يسدّد فواتير الجماعات الإنجيلية المتعصبّة. وكانت هذه الجماعات – يرفدها غُلاة مستشاريه من مجموعة «بريتبارت» – قد استخدمت خلال الحملة الانتخابية الرئاسية، ولا تزال، دعايات تخويفية عن تطرف المسلمين وخطر تدفق المسيحيين الكاثوليك اللاتينيين عبر الحدود مع المكسيك أو البحر الكاريبي الذين سيغيرون شكل البلاد خلال بضعة عقود. وأخيرًا، ترمب، الذي يكره «المؤسسات» السياسية وأسلوبها التوافقي – التشاوري اللاصدامي في العمل السياسي، يتحالف – ولو تكتيكيًا حتى الآن – مع كل القوى الشعبوية والمتطرفة، التي وضعت نصب عينيها إسقاط «المؤسسات»، وإنهاء ثقافة الحوار والتفاهم على امتداد أوروبا.. هذه حالة تستدعي القراءة الجادة، وتثير في الولايات المتحدة قلقًا كبيرًا، لأنها تعمّق الشرخ وتزيد الاحتقان في الداخل، وتوتر العلاقات مع الخارج. ولكن، إن كان ثمة قيادة واحدة في العالم لا يحق لها أن تنتقد ترمب وسياساته فهي القيادة الإيرانية.
نعم، هذه القيادة، في ضوء «مآثرها» خلال السنوات الماضية سواء داخل المجتمع الإيراني، أو مع جيرانها العرب، آخر من يحق له الكلام عن «جدران الفصل» وإسقاطها وتشييدها. صحيح أن إصرار ترمب حتى الآن على بناء جدار على طول الحدود مع المكسيك، وإصداره قرارات لتقييد سفر المسلمين إلى أميركا، وتشجيعه انهيار «الاتحاد الأوروبي» ومنع الشركات الأميركية من جني ثمار «العولمة»، كلها خطوات من شأنها أن تولّد شكوكًا وكراهية عند اللاتينيين والمسلمين وكثرة من الأوروبيين، لكن لننظر ما تفعله إيران اليوم. إيران تتبوأ حاليًا المرتبة الثانية في العالم – بعد الصين – في عدد الإعدامات، والكثير منها إعدامات سياسية تأتي في سياق قمع الأقليات الكردية والعربية والبلوشية وغيرها. ثم إن هذا البلد الطافح بالثروات الطبيعية والإنسانية والثقافية يعاني من أزمات اقتصادية واجتماعية حادة في طليعتها البطالة والفساد، ويحرم شعبه من خيراته العميمة من أجل الإنفاق على حروب خارجية يصدّر عبرها مشكلاته ومآزقه. وهو تارة يبرّر ذلك بتعرّضه لحرب كونية اضطر معها إلى القتال في بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء كي لا يقاتل في طهران وأصفهان وشيراز وتبريز.
وطورًا يتباهى حرسه الثوري بأن «إيران أضحت قوة عالمية» قادرة على تدمير كل من تسوّل له نفسه تحديها، وأنها باتت الآن تحتل العواصم العربية المذكورة. الجدران والحدود أزمة عند طهران مثلما هي عند ترمب وأكثر. إنها أزمة حقيقية، لا سيما، أنها كلما ألغت الحدود الجغرافية… بنت وأعلت جدرانًا نفسية يصعب هدمها. أكثر من هذا، رفضت طهران أن تتعلم من درس حربها الأولى من العراق، وأن تفهم مخاطر اللعب بالتاريخ والجغرافيا والمذاهب الدينية. والواقع أن كثيرين على الجانب العربي من الحرب العراقية – الإيرانية (1980 – 1988) لاموا الرئيس العراقي السابق صدام حسين على خوضها ضد جار كبير أعلن حكامه الجدد تحمّسهم لتحرير فلسطين، وأسقطوا نظامًا كان يريد لعب دور «شرطي الخليج».
وغض منتقدو صدام من العرب – يومذاك – الطرف حتى عن شعارات «تصدير الثورة» ونشاطات حزب الدعوة المذهبية. والسبب أن فتح عداوات جديدة تحت شعارات ماضوية – من نوعية «العدو المجوسي» – مسألة خطيرة تستنهض أحقادًا مدفونة، وتؤسس لفتن مستقبلية لا تنتهي.. ومن ثم، واصلت طهران التصعيد وخلق «أحصنة طروادة» داخل الدول العربية المجاورة، وأخرجت مارد الطائفية من القمقم، وتواطأت حتى مع من كانت تسميه «الشيطان الأكبر» على احتلال العراق، من أجل ضمان الهيمنة عليه.. واليوم، إذا كانت «فيالق» قاسم سليماني و«حشوده الشعبية» وميليشياته «الإلهية» قد نجحت في مسح حدود كيانات ما بعد «سايكس – بيكو» في العراق وبلاد الشام، فإنها بنت على أرضية المخاوف والأحقاد جدرانًا صماء ملطخة بالدماء بين سكان هذه الكيانات. وها هو العراق أضحى «عراقات» شيعية وسنية وكردية، وسوريا غدت «سوريات» من شتى التلاوين، ولبنان بات «لبانين» بعدد طوائفه وأحزابه. وحتى فلسطين، المُفترض أن يحصّن وحدتها الهمّ الوجودي الجامع في ضوء اقتلاع إنسانها وزيتونها، أقدم بعض أبنائها بفعل «الدعم الإيراني الشقيق» من أجل «تحريرها» على تمزيقها… بفصل قطاع غزة عن الضفة، ثم بعض القطاع عن البعض الآخر.. ولا ننسى اليمن، والخليج… وكيف ننسى؟! أساسًا، مَن يقرأ وسائل الإعلام الإيرانية «الرسمية»، وبالأخص، تلك التابعة مباشرة للحرس الثوري، تعود إلى ذاكرته مطالبات حكّام طهران بالبحرين. أما في اليمن، حيث حاولت طهران الغوص أبعد، مستنهضة «حالة سيف بن ذي يزن» طائفية تبرّر الاستقواء والتدخل والتوسّع، فكان التصدّي بالقوة لحماية الشرعية وعروبة اليمن الخيار الصحيح. ولكن الحقيقة، أن العداء ليس قدَر المنطقة العربية. بناء الجدران ليس الحل.
وإسقاط الحدود من أجل الهيمنة كفيل بتدمير كل فرص السلام. إن المنطقة مؤهلة للتعايش الحضاري الذي يثريها ويضمن ازدهارها وتفاعل مكوّناتها. ولا يجوز التوهم أن العصبيات القومية – بحد ذاتها – عنصر كافٍ للتباعد، أو أن الاختلاف المذهبي الديني مسوّغ لاحتكار الحقيقة، ويبرر لهذا إلغاء ذاك ولذاك تكفير هذا. تجربة ترمب في أولها وستُصحّح ولو بثمن باهظ، أما نحن فعلينا أن نتعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صحيفة “الشرق الأوسط” اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى