كتَـــــاب الموقع

هولودومور

فرج الترهوني

(هولودومور ) بالأوكرانية، تعني “القتل بالتجويع” وهي المجاعة التي حاقت بأوكرانيا السوفيتية، في بداية عقد الثلاثينيات من القرن الماضي. وتعتبر المجاعة هولودومور إحدى أسوأ الكوارث في التاريخ الأوكراني، وأحد أسوأ معالم فترة حكم ستالين، غير معسكرات الاعتقال الرهيبة التي تعرف بـ (الغولاغ) والتي قضى فيها نحو خمسة عشر مواطن سوفييتي. وتشير التقديرات إلى أن نحو 3.5 مليون شخص قد قضوا في هذه المجاعة، وهي إحدى أهم المحطات المأسوية في العلاقة بين الروس والأوكرانيين، الأمر الذي يؤكد أن الصراع الدموي الدائر حاليا على الأراضي الأوكرانية، لا يأتي من فراغ، وإنما هو امتداد لصراع طويل تمتد جذوره عبر التاريخ بين القوميتين الروسية والأوكرانية، وربما اختصر الرئيس الأمريكي بايدن بالأمس جوهر هذا الصراع ومآلاته عندما اتهم نظيره الروسي بوتين، بمحاولة تدمير الهوية الأوكرانية، وهو ما يتضح في قصف الأهداف المدنية مثل المدارس والمستشفيات ومراكز الرعاية والمتاحف والقصف العشوائي للمدن وتسويتها بالأرض.

هنا ربما من الضروري العودة إلى الوراء قليلا، وتسليط الضوء على العلاقة الشائكة التي ربطت الشعبين طوال قرون، ولم تخلُ قط من مراحل ملتهبة فأوكرانيا بلد صغير مقارنة بروسيا – لكنها تجاوزت ثقلها عندما يتعلق الأمر بالنفوذ السياسي داخل الاتحاد السوفيتي السابق. حيث أظهر الأوكرانيون مهاراتهم، وسيطروا على الحياة السياسية في الدولة السلف لروسيا أي الاتحاد السوفيتي. وقاد زعماء من أصل أوكراني البلاد لأكثر من نصف عمر الدولة الشيوعية.

كما يتضح التأثير التاريخي الأوكراني على روسيا بسبب حقيقة أن كييف كانت عاصمة الدولة الروسية الأولى في التاريخ، التي يعود تاريخها إلى القرن التاسع. ومن أشهر القادة السوفييت من أصول أوكرانية، نيكيتا خروتشوف، وليونيد بريجنيف، وكوستانتين شيرنينكو، وحتى ميخائيل غورباتشيف الذي أسهم بشكل فعال في تفكك الاتحاد السوفييتى الذي كان الرئيس الأميركي الأسبق يستمتع بتسميته بإمبراطورية الشر، كانت والدته من أصول أوكرانية.

أوكرانيا كانت تعتبر بمثابة سلة خبز أوروبا قبل المجاعة. وقد اعتبر بعض المؤرخين أن المجاعة كانت مدبرة من قبل السلطات السوفييتية لاستهداف وتحطيم النزعة الوطنية الأوكرانية، بينما رأى آخرون أنها نتيجة غير مقصودة للمشكلات الاقتصادية التي سببتها التغييرات الاقتصادية في حقبة تحويل السوفييت إلى الاقتصاد الصناعي. وما يعزز أصحاب نظرية التجويع أن الدولة عرضت أفلاما محرضة على العاملين تصور الفلاحين على أنهم معارضو الثورة الذين خبّؤوا الحبوب والبطاطا في الوقت الذي كان فيه العاملون، الذين يبنون «مستقبلًا مشرقًا» للمجتمع، يتضورون جوعًا.

يتحدث العالم هذه الأيام عن مجاعة تحيق بالجميع بسب توقف تصدير الحبوب من أوكرانيا التي تمثلُ نحو خمسة عشر بالمائة من الاستهلاك العالمي، لكن ما يجري الآن لن يرقى إلى حجم المأساة الإنسانية في أوكرانيا خلال فترة الهولودومور حيث وُثّقت خلالها أدلة عن انتشار أكل المَثيل أو ما يعرف بالكنابالزم، وحيث كان البقاء على قيد الحياة صراعًا أخلاقيًا وبدنيا أيضًا. وتقول إحدى الروايات أنّ طبيبة كتبت إلى صديقة في يونيو عام 1933 تقول إنها لم تصبح بعد من آكلي المَثيل، ولكن «لستُ واثقة أنني لن أكون واحدة منهم حين وصول الرسالة إليك». لقد مات الأشخاص الصالحون أولًا.

مات أولئك الذين رفضوا السرقة أو المتاجرة بشرفهم. ومات أولئك الذين أعطوا الطعام لغيرهم. ومات أولئك الرافضون أكل الجثث. ومات أولئك الرافضون قتل زميلهم. مات الآباء المقاومون لأكل المثيل قبل أطفالهم.

كان السبب المباشر للمجاعة هو دافع ستالين للسيطرة على القطاع الزراعي في الاتحاد السوفيتي من أجل تمويل خططه التصنيعية والعسكرة الطموحة. كان هذا يعني إجبار ملايين الفلاحين على النزوح إلى المزارع الجماعية (الكلخوز). مع تنامي مقاومة التحوّل الجماعي في أواخر العشرينيات وأوائل الثلاثينيات من القرن الماضي، أصبحت أوكرانيا نقطة محورية لانتفاضات الفلاحين. ردا على ذلك، نشر ستالين الشرطة السرية لإجراء عمليات ترحيل على نطاق واسع مع الاستمرار في العمل الجماعي ومصادرة الحبوب. وبحلول ربيع عام 1932 أدى إزالة إمدادات الحبوب إلى مجاعة في أجزاء من أوكرانيا. في غضون عام، كانت أوكرانيا بأكملها تقريبًا تعاني من المجاعة الجماعية.

تشير الأدلة المتاحة إلى أن ستالين استخدم الأزمة لسحق ما اعتبره القومية الأوكرانية، والتي تجلى في المقاومة الأوكرانية لفكرة الكومونات والتعاونيات، التي حاول الزعيم الليبي السابق معمر القذافي تطبيق نسخة مشوّهة منها في ليبيا، ولم ينجح أبدا بسبب مقاومة الليبيين. وبصفته مفوضًا سابقًا للقوميات، كان ستالين ضليعًا في مشاكل وتعقيدات الهوية الوطنية داخل الاتحاد السوفيتي. كان يعتقد أن التكيف الثقافي للأوكرانيين خلال السنوات الأولى من الاتحاد السوفيتي قد عزز مقاومتهم للنظام.

في 2019 أنتِج فيلم سينمائي توثيقي بعنوان (السيد جونز) يتحدث عن رحلة قام بها الصحفي الشاب من ويلز، غاريث جونز إلى أوكرانيا عام 1932 وشاهد العديد من المآسي الإنسانية التي تمثلت ذروتها في قصص المجاعة التي أهلكت الملايين، وحكايات مرعبة عن (أكل المثيل) داخل العائلات، بعثها في تقارير صادمة نشرتها صحيفة نيويورك تايمز. وكثيرون من الأوكرانيين اليوم يتذكرون الهولودومور، وهم يفعلون ما بوسعهم لصد عدوان الجار الكبير، الذي كان ذات يوم حليفا شكليا يصدّرون له الرؤساء والمسؤولين الكبار. ولهذا هم على استعداد للتضحية بأنفسهم ولا يعودون تحت الحكم الروسي مرة أخرى.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى