مقالات مختارة

هل كانت هزيمة حزيران ضرورة لحماية الفشل والاستبداد؟

إبراهيم غرايبة

هل يمكن بعد خمسين عاماً من الحرب والهزيمة العودة إليها وتحليلها وفهمها بعقل بارد؟ لنتخيل لو أن حرب حزيران لم تحدث! ما كانت لتنشأ مقاومة ولا منظمات فلسطينية مقاتلة ولا حركات نضالية قومية ويسارية ثم إسلامية، كانت منظمة التحرير الفلسطينية التي أنشئت عام 1964 ستكون مؤسسة أنيقة صغيرة معزولة تشبه جمعية لحماية فراشة نادرة من الانقراض. فقد كان المشهد على مدى تسعة عشر عاماً سبقت هزيمة 67 يخلو من مقاومة. لم يكن سوى تسوية وإدارة نتائج حرب 1948 واستيعاب نتائجها، وعمليات سياسية لمداراة الفشل والاستبداد والفساد والاحتكار والامتيازات، وكل ما لدينا من تراث مقاومتي وقومي ويساري وديني نشأ حول حرب حزيران التي كان ممكناً تجنبها، والتي كانت نتيجتها معروفة ومحسومة سلفاً قبل خوض الحرب. لماذا استدرج العرب أنفسهم إلى حرب يعلمون علم اليقين أنها ليست لمصلحتهم؟ هل كانت الهزيمة ضرورية للمشروع القومي والناصري؟ والحال أن الهزيمة إن لم تكن مشروعاً قومياً وسياسياً عربياً عن وعي مسبق فإنها كانت في الواقع الناشئ عنها استثماراً هائلاً، ومتوالية لأحداث وتفاعلات كبرى تبدو اليوم وكأنها ذات رواية مستقلة ولا علاقة لها بما حدث قبل خمسين عاماً، الاستبداد والفساد والحروب والصراعات العربية- العربية والأهلية الداخلية، وصعود الجماعات الدينية السياسية ثم موجات التطرف الديني والعنف والكراهية التي اجتاحت عالم الإسلام.
يقول ميشيل أورين (كتاب ستة أيام من الحرب) لقد تكرست في منتصف الخمسينات حقيقة كان عبد الناصر أفضل من يدركها على رغم سياساته الإعلامية الراديكالية. فقد تعاون مع قوات الطوارئ الدولية، وأبقى قوة رمزية في سيناء، وصارت السفن الإسرائيلية تعبر مضايق تيران من دون مضايقات، وعادت القضية الفلسطينية إلى الثلاجة. لكن وكما يقول أورين، فإن كل محاولات إقناع ناصر بالتحول من الميكروفون إلى التراكتور (الجرار الزراعي) باءت بالفشل. فقد ظل يستدرج نفسه إلى الإنهاك والفشل فيعوض الفشل الاقتصادي والتنموي بالمغامرات، من سورية إلى اليمن، ومنح إسرائيل أفضل فرصة لبناء وتنظيم قدراتها الاقتصادية والعسكرية في ظل استعراضاته العسكرية والإعلامية التي تهدد إسرائيل، على رغم أن العالم وإسرائيل، كما ناصر والزعماء العرب، يعلمون جميعاً أن الصواريخ المصرية فاشلة وتحتاج إلى زمن طويل لتدخل إلى ميدان العمليات وأن التحالف العربي زائف ليس له تأثير يذكر. بل بالعكس، كانت مصر الناصرية تتعرض لعزلة وضربات سياسية وديبلوماسية قاسية في العراق والأردن وسورية والسعودية. القلق الوحيد والمهم أيضاً كان مصدره الاتحاد السوفياتي الذي بدأ منذ منتصف الخمسينات يعادي إسرائيل بعدما كان داعماً رئيسياً لها، بل إن خروتشوف كان يضغط على ناصر لأجل مزيد من السياسات والمواقف الأكثر راديكالية. والحال أن عبد الناصر دفع رغماً عنه إلى البطولة وكان يدرك تماماً أنه يمضي إلى نهايته.
ازدهرت إسرائيل في السنوات العشر السابقة لحرب حزيران على نحو فريد. فقد تضاعف عدد السكان ثلاثة أضعاف، وحققت نمواً اقتصادياً مرتفعاً قدره 10 في المئة، وبلغت نسبة خريجي الجامعات فيها خامس أعلى نسبة في العالم، وازدهرت الفنون والصحافة والحريات، وتضاعفت قدرات الجيش العددية والتدريبية وأسلحته إلى الحد الذي يمكنه بوضوح من التفوق على الجيوش العربية مجتمعة وبكفاءة مذهلة. لقد وظفت إسرائيل العداء العربي بل إنها مدينة لهذا العداء في كل إنجازاتها الاقتصادية والاستراتيجية، وفي الوقت نفسه كان هذا العداء غطاء للأنظمة السياسية العربية لتواصل الفشل والاستبداد، وتترك الموارد والمؤسسات والإنجازات تضيع وتنهار.
تكاد تكون حرب 67 في روايتها الحقيقية المنشئة صراعاً عربياً– عربياً وصراعاً أميركياً سوفياتياً وأزمات داخلية في الدول العربية نفسها أكثر مما هي صراع عربي- إسرائيلي، لكنها بالتأكيد تحولت وفي سرعة كبيرة إلى أسطورة إسرائيلية وجرح عربي نرجسي دائم النزف والإهانة. ولو أن فيلماً سينمائياً يعدّ اليوم عن الحرب فإنه سوف يفتتح (يجب أن يفتتح) بمشهد أبراج مركز التجارة العالمي في نيويورك تنهار في 11 أيلول (سبتمبر) 2011 ثم يعود مبتدئاً بالإهانة والانتقام في المطارات والصحارى العربية. ليس التاريخ سوى التيه والكراهية!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صحيفة “الحياة” اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى