مقالات مختارة

هل تتحقق العدالة بالحرية؟

عزمي عاشور

أخذ البشر عبر تاريخهم الثقافي والاجتماعي يقتربون من قيمة العدالة في حياتهم بتهذيب وتشذيب كل ما هو منحرف في السلوك بتقييد النوازع التي فيها اعتداء على الآخرين، فاقتربت القوانين والدساتير من القيمة بمفهومها الواسع بفضل فلاسفة العلوم الاجتماعية بتعمقهم في فهمها في إطار قيم أخرى كالحرية وغيرها.

فالعدالة كنظرية تأخذ صوراً مختلفة بحسب طبيعة الحقل الذي يمكن النظر إليها من خلاله، فهي في العلوم السياسية تتجلى في الديموقراطية بكونها حتى الآن هي أفضل السبل لتحقيق أكبر المنافع لصالح المجموع وليس لصالح فرد أو فئة. وبالنسبة إلى الاقتصاد تكثر الاجتهادات والنظريات وكل منها حاول أن يصل إليها سواء عبر الاشتراكية أو الرأسمالية، ففي الأولى هناك انتصار لقيمة المساواة إلا أنها تحمل جوراً على العدالة ككل لأنها ساوت بين من يعمل ومن لا يعمل. أما بالنسبة إلى المذهب الرأسمالي، فإنها كانت أقرب إلى العدالة؛ غير أنها أهملت قيمة المساواة. فهناك من يظلم وفقاً لعوامل ليس له سبب فيها وهو لا يستطيع أن يجاري مَن ساعدته ظروفه الاجتماعية ليخرج ما عنده، ومن هنا يأتي التساؤل؛ كيف نحقق العدالة والحرية والمساواة في الوقت ذاته؟ هل هذا ممكن؟

فالبشر بقدراتهم يستطيعون أن يخلقوا من خلالها ظروفاً أفضل لأوضاعهم لو أتيحت لهم الفرص والمنافسة الشريفة (الحرية) ولكن لا يصح أخذ هذا المبدأ على إطلاقه مِن دون مراعاة مَن لم تتهيأ لهم الظروف المناسبة كالتعليم مثلاً، الذي قد يفوت انعدامه عليهم فرصاً كانوا يستحقونها بمنافسة غيرهم.

وبالتالي نشأت ضرورة الاهتمام بالفقراء بالتعليم والرعاية الصحية حتى تتوافر لهم الظروف التي تمكنهم مِن إخراج ما لديهم من قدرات مفيدة تصعب الاستفادة منها في حال انعدمت هذه الخدمات التي ترقى إلى مرتبة الحقوق الأساسية. هذه هي القضية المحورية التي تشغل النظم السياسية بما فيها الرأسمالية حتى الآن؛ كيفية تقديم الخدمات العامة كالصحة والتعليم لغير القادرين؛ لأهمية هذا الأمر في تهيئة القوة البشرية لمنافسة متكافئة بناء على قدرات الأفراد. وفي هذا السياق يمكن أن تتحقق قيمة المساواة والحرية معاً وبدورهما قد يقودان إلى الاقتراب من قيمة العدالة كمفهوم كلي جامع. فعندما تهتم الدولة بالفقراء تعليمياً وصحياً فسيخرج مِن بينهم مَن يستطيع أن ينافس مَن سمحت ظروفه مِن دون تدخل الدولة ليحصل على هذه الخدمات نفسها لظروفه المتيسرة، وعندما يصلون إلى هذه الدرجة يتساويان في الظروف وتترك الحرية للمنافسة ليثبت كل منهما قدراته. ومن هنا تبدأ المنافسة المبنية على الحرية وإثبات الذات، فنجد التمايز والتفاوت بين البشر بناء على القدرات.

فماذا لو لم يحدث مثل هذا التدخل للفئات المستضعفة؟ هنا سنبعد عن نظرية العدالة؛ لأن جزءاً من المجتمع تمَّ تهميشه بسبب ظروفه الاجتماعية والاقتصادية وستقتصر المنافسة وإن قلَّت حدتها في هذه الحالة على فئة صغيرة من المقتدرين.

مناسبة هذا الحديث أننا في مجتمعاتنا العربية ما زلنا عاجزين عن اختيار الطريق الذي ينبغي أن نسلكه؛ هل نأخذ المسار الاشتراكي الذي إن حقق مبدأ المساواة فإنه في المقابل يقتل الحافز ويميت المجتمع، وإن تمَّ الأخذ بالمذهب الرأسمالي بشكله المطلق، فهناك فئات كثيرة قد تذهب ضحية لظلم الظروف التي نشأت فيها. ومن هنا من الممكن الجمع بين مبدأي الحرية والمساواة للاقتراب من أفضل نقطة على خط العدالة.

ونسوق هنا أمثلة من واقعنا العربي. فمنذ سنة تقريباً كانت هناك مشكلة كبيرة في الاقتصاد المصري متمثلة في وجود سعرين للدولار بالجنيه المصري، والفرق بين السعرين قد يصل إلى الضعف، فظهر خلل اقتصادي نظراً لعدم دخول موارد الدولار في شكل طبيعي إلى جسد الاقتصاد، وخصوصاً عائد العمالة القادم من الخارج الذي يبلغ نحو 20 بليون دولار سنوياً، فأصبح جزء منها يأخذ مساره لجيوب مَن انتبهوا لهذا الخلل من تجار العملة وغيرهم، وتحول الدولار من وسيلة للتبادل ليكون مخزناً للقيمة في يد هؤلاء يحتفظون بها في البيوت بدلاً من البنوك، للمضاربة لرفع أسعارها. وسبب هذا الخلل ناتج أساساً مِن أن الدولار له سعر رسمي محدد من قبل الدولة وليس وفقاً لنظرية السوق (الحرية. ومن ثم بات ضرورياً البحث عن حل يخلق التوازن والانسجام (العدالة) فكان تعويم الجنيه رغم فقده قيمته بنسبة 100 في المئة تقريباً. إلا أن الفائدة الكبيرة تتمثل في أن العملة الأجنبية باتت تأخذ مسارها الطبيعي داخل جسد الاقتصاد المصري، بعيداً مِن السوق الموازية، فتدفقت الدولارات بالبلايين وارتفع الاحتياط النقدي في شكل يقترب من الفترة التي كان عليها قبل ثورة كانون الثاني (يناير) وما أعقبها من عدم استقرار. ولكن ما علاقة ذلك بالعدالة؟ العلاقة تكمن في الانتصار لقيمتين؛ الأولى هي الحرية ومبدأ تكافؤ الفرص ومنع الاحتكار، والثانية أن المكاسب عندما تذهب لجسد الاقتصاد كلاً يحدث التوازن والانسجام ويحدث نمو طبيعي حتى لو كانت البدايات تشهد ارتفاع التضخم.

فهل من الممكن أن يتم تحرير السلع كافة مثلما تمَّ تحرير الدولار؟ بالتأكيد في مثل حالة المجتمع المصري وغيره من البلدان العربية الشبيهة، يصعب تحقيق ذلك في شكل لا يراعي وضع الفقراء. فإذا كان التحرير مهماً للاقتصاد، فإن مراعاة غير القادرين لا تقل أهمية؛ حتى يستطيعوا في ما بعد أن يستوعبوا عملية التحرير التي في حال تفعيلها ستحدث عملية المنافسة والمساواة التي توصلنا إلى نقطة العدالة المطلوبة.

…………………………..

الحياة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى