مقالات مختارة

هزيمة في الترجمة

سوسن الأبطح

بسبب «خطأ» أو «غموض» في الترجمة، لا نعرف لغاية اللحظة إن كان الرئيس الأميركي دونالد ترمب في خطابه الأخير في الأمم المتحدة، قد دعا إلى توطين اللاجئين السوريين في الدول التي نزحوا إليها، أم قصد شيئاً آخر من استخدامه كلمة «ستلمنت» وهو يتحدث عنهم؟ ما هو أكيد أن الخطاب أثار موجة غضب شعبي ورسمي، استدعت رداً من رئيس الجمهورية ميشال عون بأن «لبنان لن يسمح بالتوطين لا للاجئ ولا لنازح مهما كان الثمن، والقرار يعود لنا وليس لغيرنا». وهذا ليس أخطر الأخطاء التي ارتكبها مترجم. فقد بات معروفاً، بفضل كشفٍ حديثٍ، أن الأميركيين ضربوا اليابان بقنبلتين ذريتين راح ضحيتهما 170 ألف قتيل، بسبب كلمة «موكوساتسو» حمّالة الأوجه، التي جاءت كرد من اليابان على عرض الاستسلام في الحرب العالمية الثانية، وكانوا يقصدون بها «لا تعليق»، بينما فهمها الأميركيون على أنها تعني: «ازدراء صامت»، وإهانة للخصم، فكانت الكارثة.

تكررت أخطاء المترجمين في الفترة الأخيرة، والعالم على شفير حفرة نار، فطالت مرة خطاباً لإردوغان، وهو برفقة ترمب، مما رفع منسوب التوتر بين الرجلين، وأخرى تركت ضبابية حول تصريح للمسؤول الإيراني علي أكبر صالحي كادت تطيح بالاتفاق النووي المهتز أصلاً.

وبالتالي فإن تركيز العرب المستجد على الترجمة، وتعلم اللغات لا يأتي من فراغ. فقد كان الربط وثيقاً منذ العصر العباسي بين النهضة والترجمة، ثم قيل إن النهضة الثانية لا تقوم إلا بتخريج مترجمين أكفاء، فكانت «مدرسة الألسن» في مصر التي أسسها رفاعة رافع الطهطاوي. لكن اللافت أن تكثيف عدد المؤسسات العربية المعنية بالترجمة منذ عشر سنوات إلى اليوم، وتوسيع نشاطها، لم يعط النتيجة نفسها، بل صار الفكر إلى ظلام دامس، بدل أن تشرق عليه أنوار المعرفة. وقد لا يكون مجرد نقل النصوص إلى العربية، كما يتبدى للقيمين على المهمة هو الغاية المرتجاة، بدليل أنها لا تحدث التأثير المطلوب منها. فحين وضع جبرا إبراهيم جبرا ترجماته الإبداعية لشكسبير فتح شهية القارئ على التهامها وإعادة قراءتها. وعندما ترجم ميخائيل نعيمة كتاب «النبي» لجبران قام بما يشبه إعادة خلق للنص الإنجليزي. وكان الكتاب المترجم لجمالية لغته يتحول إلى جزء من كلاسيكيات القراء، والمحتويات الأثيرة من مكتباتهم الشخصية، دون أن يلتفتوا بالضرورة إلى دقة المضمون.

وبعد سنوات طوال يستفيق الفرنسيون ليكتشفوا أن هيدغر الذي كان من بين الفلاسفة الأكثر تأثيراً في حياتهم الفكرية الحديثة، أسيء فهمه، وأن ترجماته من الألمانية خائبة، ويرون في ذلك خطورة يصعب تجاوزها من دون ترجمته من جديد. الكلام هنا عمن ينقلون من اللغة الأم، فما بالك وأن الكثير من الترجمات العربية أتتنا في غالب الأحيان عبر لغتين اثنتين وسيطتين هما الإنجليزية والفرنسية، اللتان بقينا أسرى لهما، وما نزال. فكيف قرأنا إيمانويل كانْت مثلاً، وهل تعلّم طلاب الفلسفة فكره، كما يجدر بهم؟ وهل هو متاح أصلاً بالعربية بترجمة جيدة بعد أكثر من 200 سنة على وفاته؟ هذا الفيلسوف الذي تعتبر ثورته في التفكير بمستوى ثورة كوبرنيكوس الذي من بعده عرف العالم أن الشمس هي محور النظام الكوكبي الذي نعيش فيه، وليس الأرض.

لو أصغيت إلى د. غانم هنا، الذي يعكف حالياً على ترجمة «كانْت» من الألمانية مباشرة، تدرك أن الترجمة ليس فعل نقل كما يحدث في أكثر الأحيان، وإنما فهم وإدراك للنص وإعادة إبداع، كي تصبح القراءة ممكنة. فما بالك حين تمر الترجمة بتحوير وحذف، ويتعرض الكتاب لقلة أمانة واستهتار. ليس القصد تبخيس دور المترجمين، بل تأكيد محورية دورهم، سواء في الترجمة الفورية التي قد تتعلق عليها مصائر شعوب وعلاقات دول، أو في المكتوب حين تتناقل أجيال كتباً وتتتلمذ عليها، وتصير النصوص حقائق لا حاجة لمراجعتها.

أن يبدأ العالم بالاحتفال بيوم عالمي للترجمة، فقد فتح الباب أمام العرب هذه السنة، للحديث مجدداً عن انكساراتهم أمام الشعوب وهزال نتاجهم المترجم. ولو نظرت إلى الأمم الأخرى لوجدتها لها معضلاتها، وشجونها أيضاً. المترجمون مغيبون وراء النص الأصل، والكاتب الأساس حتى في القوانين الغربية للنشر، يبقى كالجندي المجهول، يعمل كثيراً ويكافأ قليلاً. وشح الأموال المخصصة لهذه الغاية حالة يتقاسمها أهل العلم دون تمييز. لهذا فإن العرب، وإن بدوا أنهم في آخر السلم، فمشكلتهم مع الترجمة هي كما غيرهم، تضاف إليها فرقتهم وخلطهم المزمن بين السياسي والثقافي، واعتبارهم الترجمة عملية ميكانيكية لا مهمة إبداعية.

كليات الترجمة في الجامعات، لا تتواصل ولا تتبادل الخبرات، والمؤسسات المعنية تنتج كتبها، وكأنها جزر معزولة، لا علاقة لواحدتها بالأخرى. والنتيجة كتب بعضها يُفهم، وآخر يكاد يكون طلاسم وألغازاً وجملاً مفككة تحتاج إلى من يفسرها، وهي خلو من السلاسة التي من دونها لا قراءة ولا متعة. يحاول مشروع «كلمة» في أبوظبي مشكوراً أن يجد الحلول. لكن صعود السلم سيكون مستحيلاً طالما أن التواصل محدود، والأساليب ضعيفة، ومعرفة المترجمين بالعربية لا تؤهلهم لكتابة جذّابة. ويشكو المترجم المحنك لورانس فينوتي في كتابه البديع «اختفاء المترجم»، وهو يتحدث عن تجربته الطويلة، من أن النقاد لم يركزوا يوماً حين يصل إلى يدهم كتاب مترجم إلا على السلاسة والأسلوب الشائق، ويضربون عرض الحائط بالدقة وصحة المعلومات. وهو أمر يفهم. فنحن في زمن تمجيد التسالي والمتع والترفيه. وأن يتحول الكتاب المترجم إلى حفلة تعذيب، فهذا ما لن يقبله قارئ وعلى المترجمين توخي الحذر، والمؤسسات المعنية الأخذ بعين الاعتبار. ويرجى أن يأتي المحتفلون بيوم الترجمة السنة المقبلة وهم مسلحون باستراتيجية عربية متكاملة، يضعونها بالتشاور فيما بينهم، لإطلاق مشروعهم. فلا حلّ غير العمل معاً، وهو أنفع ألف مرة، من البقاء في حيز الشكوى وتوصيف الهزيمة.

_______________________________

الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى