كتَـــــاب الموقع

هذه كتب وليست طيورا

سالم العوكلي

هل انتهى زمن الشعر؟ سؤال غالبا ما يطرحه الناشرون والغاوون والنقاد وحتى الشعراء أنفسهم، ويحمل هذا السؤال في جعبته أسئلة أخرى تتعلق بدور الشعر والشاعر في هذا العصر. ولابد لأي ظاهرة من مؤشرات توحي بوجودها، فهل هذا القلق نابع من انحسار كمي للشعر أو كيفي؟ بشكل ينبئ بانسحاب القارئ من هذا الحقل، وبكساد سوق الكتاب الشعري، أم أن القلق مبعثه تراجع دور الشاعر النجم الذي تشد إليه الرحال، ويحرك ببضعة أبيات وجدان الحشود، هل ثمة سؤال يستبان أكثر تحديداً مثل الذي طرحه الشاعر المكسيكي أوكتافيو باث في كتابه (الشعر ونهايات القرن): “كل حديث عن الشعر يجب أن يبدأ، أو ينتهي بسؤال: كم من الناس مازالوا يقرؤون كتب القصائد؟ ومن هم هؤلاء؟”.

إن تصور هذا الكم، أو هذه النسبة، من الممكن أن يشير إحصائياً إلى دور الشعر والشاعر في حياة الناس، بشكل يثبت استمرارية هذا الفن في اتصاله بالمحيط، ومن ثم يمكن الحديث عن طبيعة هذا الدور أو فاعليته، ولكن لابد في البداية من طرح أسئلة أخرى مشاكسة في ثنايا هذه الأسئلة المبدئية الشائعة:

هل كان الشاعر فعلاً محرك جموع ومُسيّرها تجاه ما يرغب؟ وبناء عليه، هل يوجد معيار ما  يمكن أن نقيس وفقه مدى تراجع الشاعر عن هذا الدور؟ ومن جانب آخر هل يعتبر هذا الدور الاستبدادي، الذي عادة ما يقوم به الطغاة، شرفاً للشاعر أو للشعر؟

هل يمكن أن نقر بانحسار تواصل الشاعر مع محيطه وابتعاده عن المجتمع، أو التسليم بنهاية زمن الشعر، دون الركون إلى مرجعية نقدية تسرد تاريخ الشعر، أو أية دلائل إحصائية قد تكشف هذا الوهم أو تعززه؟

وإذا ما سلّمنا بالدور الطليعي والتحريضي للشاعر في عصور سابقة، فهل نعتبر تراجعه عن هذا الدور في صالح الشعر، أم مؤشراً لنهاية دور الشاعر بهذا المفهوم التقليدي المشكوك فيه أصلاً؟

ومن خلال جدل هذه الأسئلة بالإمكان أن نفكر معاً في طرح إشكاليات أخرى، تتعلق بمفهوم القارئ، والنخبة، ودور الشاعر، ومسألة التداول الجمالي التي تشظت إلى حقول جمالية أخرى في هذا العصر، الذي يقترح العديد من أدواته الشعرية لمخاطبة وجدان الجموع، وإجمالاً فإنه لا يمكننا أن نحكم حكماً نهائياً على نهاية دور الشاعر وعلاقته بمحيطه دون أن نعزز ذلك بإحصائيات علمية تبرهن على هذا الحكم. ورغم عدم توفر هذه الإحصائيات في ثقافتنا العربية، إلا أنه من خلال انطباعات ليست جزافية، بالإمكان رصد مظاهر إجرائية عديدة تؤيد وجهة النظر القائلة إن النشاط الشعري في تزايد مطرد، كمّاً ونوعاً، وأن متلقي الشعر أيضاً في زيادة مطردة، يخدمها تطور فنون الطباعة والنشر وثورة الاتصالات وغزارة الدوريات الأدبية وانتشار الجامعات بأقسامها المختصة بالأدب، وغير ذلك من أدوات إنتاج الشعر وتسويقه.

لقد كان الشعراء  ـ في بداية القرن المنصرم على الأقل ـ يطبعون من كتب القصائد نسخاً تعد بالمئات وأحياناً بالعشرات ، بينما راهناً بالإمكان رصد هذا الكم من الشعراء وما يصدر من نسخ كتب شعرية تعد في مستواها الأدنى بالآلاف لكل شاعر، أي بمعنى آخر، وبشكل حسابي تقريبي، يمكن الحديث عن ملايين نسخ من الشعر صدرت في العقود اللاحقة، واختفت من السوق “هذه كتب وليست طيورا” كما يقول أكتافيو باث. بينما دور النشر لم تتوقف عن نشر كتب الشعر، وهي بالتأكيد مؤسسات لا تخلو من ميول ربحية تجعلها تستمر في نشرها، فضلاً عن تزايد أعداد الدوريات والمجلات الشعرية والصفحات الثقافية في الصحافة السيارة بشكل لم نشهد له مثيلاً في العقود السابقة، إضافة إلى المواقع الشعرية العربية العديدة التي يعد زوارها والمتفاعلون معها بالملايين .. زد على ذلك الحضور الشفوي للشعر عبر الأمسيات الشعرية التي تقام في كل مكان، داخل وخارج الدول العربية، وبالقدر الذي نستطيع أن نعتبر هذا الطقس شبه يومي، وإذا ما حسبنا متابعي هذه الأمسيات فسنجد أعداداً مفاجئة، وداحضة لتصوراتنا عن انتهاء دور الشاعر في الحياة الثقافية العامة.

ولكن إذا ما سلمنا “دون تأكيد” على أن الشاعر كان له دور كبير، أو بالأحرى مختلف، تجاه تحريك الجموع، فإن بالإمكان أن نقول إن الشعر توقف عن الضجيج، لكنه لم يتوقف عن حضوره الهامس المتسرب إلى شغف إنساني جمالي متوارٍ خلف ضوضاء العصر. وهو منحى لا يمثل قدحاً في الشعر القديم، بقدر ما يؤكد انزياحاً طبيعياً لدور الشعر الجمالي والمعرفي، فالشاعر قديماً كان يمثل مؤسسة إعلامية شاملة في مجتمعات أو قبائل تحتاج إلى الميديا، ولا تملك بحكم اللحظة التاريخية أية مؤسسات إعلامية أخرى، وكان على الشاعر أن يقول كل شيء عبر أداته الفنية المنفردة بوجدان وعقل المحيط، متجاهلاً في غالب الأحيان أسئلته وهمومه الذاتية، كي يشبع شغف المحيط بالفخر وبالنسيب وبتأجيج الروح الجماعية، حيث كان الشاعر ملهماً للمحاربين والعشاق في الوقت نفسه.

من جانب آخر إذا ما تجاوزنا دور الشاعر الإعلامي قبل ألف عام، وذهبنا إلى دور الشعر العربي خلال القرن العشرين، وسلمنا بأنه كان للشاعر حضور جماهيري ودور فاعل في تحريك الجموع ــ مع ارتياب أسجله تجاه هذا التسليم ـــ  فإننا بالإمكان أن نرجع الأمر للأسباب السابقة المتعلقة بالميديا، مع حلول الثورات والأيديولوجيات بدل القبيلة، وإن تحريك الجموع كان في الواقع نتيجة هذه الثورات والأيديولوجيات المتصارعة، التي تبنت الشعر كإحدى أدواتها لترويج بضاعتها الكاسدة، فخلقت ميديا إعلامية لترويج بعض الشعراء، كي يروجوا بدورهم لتلك الأيديولوجيا، وكان صراع تلك التيارات واضحاً عبر صراع دورياتها وصحفها الناطقة باسمها .. صراع دفع ثمنه الكثير من الشعراء، الذين تخلوا عن ذواتهم ورؤاهم الخاصة، ليكتبوا حسب شروط هذه المنابر.

ربما ولّى زمن الشاعر النجم، الشاعر المنبري التطهيري الذي يعد الجموع بالفردوس الوارف، أو بالنصر المحقق المنتظر على عتبات القوافي، أو بكون اللغة من الممكن أن تنهض بأمة أو تحل محل الواقع. وفي أفضل الأحوال بتخديره عبر ملاحم من الهجاء التطهيري.

الشاعر الآن يميل إلى العتمة ليخاطب أشباحه الحميمة، ويتلصص على كل ضوء كامن في الصمت لينطقه، لا يوجد الآن شاعر رمز أو نجم، لكن توجد دائماً تجربة شعرية، يقترحها العديد من الشعراء المنكبين على أسئلتهم بمعزل عن الميديا أو الضوء، إنهم حفارون في طبقات الوعي البشري ودهاليز النفس الحائرة، وربما وجودهم في قلب الزحام هو الذي يجعلهم غير مرئيين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى