كتَـــــاب الموقع

نقاش قديم حول أفضليات أنظمة الحكم

عمر أبو القاسم الككلي

اخترع الإنسان النظام السياسي الديمقراطي في وقت مبكر نسبيا، أي منذ حوالي خمسة وعشرين قرنا. وقد كان ذلك في بلاد الإغريق، وبالذات المدينة- الدولة أثينا.
وبالرغم من كل ما يقال، ويمكن أن يقال، عن نواقص هذه اليمقراطية، من حيث أنها لم تشمل المواطنين سكان الدولة جميعا، إذ كانت تستثني العبيد والنساء، إلا أنها مثلت، بالمقاييس التاريخية الواقعية، قفزة جبارة على طريق التطور الديمقراطي.
وفي هذا المقال نستعرض نقاشا قديما حول أفضليات النظم السياسية دار بين ثلاثة من القادة السياسيين والعسكريين الفرس حوالي القرن السادس قبل الميلاد، أورده* هيرودوتوس في كتابه “التاريخ”.
دار النقاش بعد قتل حاكم طاغية حول أي نظام سياسي ينبغي أن يتبناه القادة الجدد. فقال أوتانيس:
“يبدو لي أنه يجب ألا يظل واحد منا يمارس السلطة الملكية وحده علينا لأن ذلك لن يكون مرضيا ولا جيدا […] إذ بالفعل كيف يمكن أن يكون حكم الفرد نظاما جيدا طالما يسمح للملك أن يفعل ما يريد دون أية مسؤولية”. محاججا بأن السلطة المطلقة تغري، حتى الرجل الفاضل، بإتيان المظالم “لأن الإساءة للآخرين […] من الطباع التي يكتسبها المرء مما يحيط به، أما الحسد فهو زرع طبيعيا في الإنسان منذ الولادة”، وهاتان الصفتان، حسب تحليل أوتانيس، كافيتان لأن يرتكب الحاكم الفرد الانتهاكات والشائنات. عليه “إذا كانت السلطة في يد الشعب فإن أفضل شيء تقدمه من بين جميع الأشياء هو اسم المساواة أمام القانون”. ويختتم مرافعته بالقول “إنني أقدم وجهة نظري بأن نترك الملكية وأن نزيد من قوة الشعب لأن كل شيء ملك للأغلبية”.
لكن ميغافيسوس، رغم اتفاقه مع أوتانيس في نقده الحكم الملكي، لم يدعً إلى إقامة نظام شعبي ديموقراطي، وإنما طالب بإقامة حكم الأقلية. لأنه “من غير المقبول للرجال أن يهربوا من سوء معاملة الملك [ليقعوا] تحت إساءة الشعب الذي لا يلجم”. لأن الملك “يعرف ماذا يفعل، أما الشعب فهو لا يعرف شيئا”، وإنما “يندفع إلى الشؤون العامة دون عقل ويدفعها مثلما يفعل النهر، والآن فليسلّم أولئك الذين يتمنون السوء للفرس الحكم للشعب” وينهي حديثه بالتوصية بإقامة نظام سياسي أوليغاركي (= أروستقراطي) قائلا “أما نحن فإننا بعد أن نختار مجموعة من الرجال الممتازين فسنسلمهم السلطة لأننا بالتأكيد سنكون نحن أنفسنا من هؤلاء، وهكذا فإن قرارات الرجال الممتازين ستكون ممتازة”.
أما داريوس فقد أيد ميغافيسوس بخصوص رأيه في حكم الشعب. لكنه عارض رأيه بشأن حكم الأقلية، وكانت حجته بأننا “إذا افترضنا أن الأنظمة الثلاثة تكون كلها ممتازة، فإن حكم الأقلية أفضل من حكم الشعب، وحكم الفرد أفضل من الأقلية [… و] هو الأفضل بكثير، لأنه ليس هناك أفضل من أن تكون السلطة في يد رجل ممتاز واحد”. فملك من هذا النوع سيتوخى حماية الشعب إذ تبقى قراراته ومخططاته ضد الأعداء سرية، على خلاف الحال في حالة حكم الأقلية. وفي النهاية يقول “إن وجهة نظري هي: لأننا تحررنا بفضل رجل واحد يجب أن نحافظ على هذا النظام، كما يجب علينا ألَّا نترك قوانين الآباء طالما هي مازالت جيدة، لأن ذلك ليس هو الأفضل”.
أحببت أن أستعرض هذا النقاش العائد إلى أكثر من خمسة وعشرين قرنا حول أنظمة الحكم، الذي يتضح منه مدى عمق المحاججات ووجاهتها.
* تاريخ هيرودوتوس. ترجمه عن الإغريقة الأستاذ الدكتور محمد المبروك الدويب.. وزارة الثقافة والتنمية المعرفية (د. م)، (د. ت). ص 237- 238.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى