اهم الاخباركتَـــــاب الموقع

ندعي على ليبيا ونكره اللي يقول آمين

سالم العوكلي

“نحن نملك الحق في أن نكره ألمانيا لأننا نحبها”
توخولسكي . الصحفي المستقل فترة النازية.
على منشور في الفيس بوك، علق أحد أعضاء اللجان الثورية السابقين، الهارب من البلاد وأهلها، بما محتواه شماتة فيما حصل لليبيين بعد إسقاطهم للنظام، فعلقت عليه بدوري بهذا التعليق الذي أرى من الأهمية أن أبدأ به :
“أنت تعرف أخي (….. ) أن نظام حكم الفرد أو الأسرة لا يدوم، ولم يسبق أن خلد نظام مثلها، وعادة ما تكون نهاياتها دموية ومؤسفة ، وأقرأ تاريخ أنظمة أقوى من النظام الليبي بمئات المرات كيف انتهت ، كنا نتمنى لليبيا مسار آخر أكثر أمنا، وتذكر تعلق الليبيين في البداية بمشروع وخطابات سيف الإسلام التي كانت تلبي نظريا رغبات الشارع إلى حد كبير ، وحديثه عن الديمقراطية وعن الدستور الذي تمت صياغة مسودته، وعن التنمية المستدامة والمنابر السياسية والمجتمع المدني وحقوق الإنسان، وغيرها من الأشياء التي كان الحديث عنها محرما لعدة عقود . لكن هذا المشروع الذي رحب به الليبيون والشباب خصوصا لم يتقدم خطوة، وأجهضه الحرس القديم الحريص على مكتسباته ونفوذه وعناده ، خصوصا حين شن سيف الإسلام حربه على اللجان الثورية وعلى القطط السمان ، تلك القطط السمينة التي أعرفها وتعرفها والتي وقفت لمشروع الإصلاح بالمرصاد . لو تم تفعيل ذلك المشروع لنجت ليبيا وانتقلت بشكل آمن، بل أن الليبيين انتظروا خطاب سيف بعد فبراير لينقذ ما لم يمكن إنقاذه حين كان الحراك يدار بواسطة المحامين والقضاة وفق مطالب شعبية مشروعة، غير أن الخطاب العنيد كان الشعلة التي أخرجت كل شيء عن طوره . العناد .. العناد .. العناد . هو من أوصل ليبيا إلى ما وصلت إليه الآن . وما حدث كان لابد أن يحدث وحدث لأمم أكثر منا تقدما وقوة وتطلعا للمستقبل، ولأنظمة أقوى . أرشيف التاريخ مليء بصور النهايات المروعة لحكام اختصروا الأوطان في أشخاصهم الزائلة ، وأرشيف التاريخ ملئ بالثمن الذي دفعته الشعوب بعد نهاية تلك النظم الظالمة . لاشيء جديد يحدث وكل ما حدث كان متوقعا منذ زمن بعيد والليبيون يتحدثون عن خوفهم مما بعد القذافي لأنه لم يضع أي بديل آمن.
أنا لست نادما على شيء لأني كنت من ضمن الليبيين الذين يبيعون كل ما يملكون من أجل العلاج في مصر وتونس والأردن وهي دول أفقر منا ، وكنت من ضمن التكنوقراط الذي يقبع في طابور المصرف خمس ساعات من اجل الحصول على 50 دينارا بالأحمر تكفيني ليومين، وكنت أسكن في شقة مشيدة منذ 1926 لا تصلح حتى حظيرة للحيوانات، وحين أقول أنا فإني أعني ملايين الليبيين الذين وصفهم القذافي نفسه بالفقراء بعد أن وصفهم بالحقراء، في إحدى أغنى الدول في العالم. وماذا تتوقع من احتقان شعبي تراكم لمدة عقود ، لابد أن ينفجر ويحرق اليابس والأخضر . باعتبار الأخضر هو النظام واليابس هم الناس الذين خرجوا بشكل سلمي في الميادين قبل أن يُخرج القذافي من السجون كل الإرهابيين ويفتح لهم أبواب مخازن السلاح.
المطلوب هو الخجل : خجل من هتفوا بحماس للمستبد، وخجل من دعموا طويلا منظومة القمع والفساد.”.
علق بعدها صديق يقول : ” أخي سالم أنت تعرف أن أعضاء اللجان الثورية لا يفهمون هذه اللغة الهادئة والمهذبة لأنهم تعودوا على الشتائم المقذعة وعلى البذاءة طول تحكمهم في شؤون ليبيا فانصحك بتجاهلهم.
ولا يخلو تعليق صديقي من وجاهة، لكن ما يستفزني هذا القدر من الشماتة والتشفي الذي يحمله أتباع النظام السابق لشعبهم وأرضهم، وهو أمر أخلاقي قبل أن يكون سياسيا أو اجتماعيا. لكن على مدى طويل كره الليبيون اللجان الثورية لهذا السبب نفسه، افتقادهم للحد الأدنى من الأخلاق والتهذيب في ما يقولون أو يفعلون، على الأقل الأغلبية منهم.
كثيرا ما أكتب منشورات توحي وكأنني أكره ليبيا، نعم كثيرا ما يجعلني الضيق انفعل تجاه هذه المعشوقة ليبيا والتي أحس أحيانا أنها تخون ناسها الطيبين مع الأدعياء والعابرين ومستغلي ظروفها الصعبة . إنها كراهية المحب التي لا يمكن أن تصمد أمام لحظة شوق إليها .
من ضمن قصيدة بعنوان “ليبيا” كتبتها العام 2005 ، أقول:
أنا المازوخي القديم
الذي باع حلفاكِ لقصائد رامبو ،
ونقش على الكهوف وحوشه العطشى ..
عاثرٌ فيكِ حتى الجنون ،
أكفر بكِ ،
وألعن جد أبيك ،
أدعو عليك
بالصرصر والجراد والعقم ،
ألعنك ألف مرة وأكره من يقول : آمين! .
وينتهي المقطع بتوظيف لمثل شعبي سائر “ندعي على خوي ونكره اللي يقول آمين” . بمعنى ، إذا ما عبر أحد أمامك عن كراهية لأخيه منفعلا فلا تسايره في كراهيته، لأنها تضمر حبا حقيقيا سيجعله يكرهك حين يهدأ وحين يكتشف أنك تكره أخيه فعلا. وهذه الكراهية الأصيلة هي ما تعبر عنه شماتة وتشفي الكثيرين ممن اختزلوا ليبيا في شخص القذافي.
تنطبق حالة الحب المرتبكة على الكثيرين ممن يهاجرون من أوطانهم تحت وطأة اليأس أو الغضب، ولا يكفون عن الحنين إليها ، ويحدث هذا حين يختزل الوطن في سلطة سرقته من وجدان عشاقه أو في ظروف قاسية حولته إلى جحيم، لكن لا وجود لشيء اسمه وطن سوى بناسه الذين يصبغون عليه هذا النعت الحميمي، وبالتالي لا وجود لمفهوم الوطن إلا بتحقق المواطنة المتمتعة بحقوقها، المواطنة هي التي تفضي إلى الوطن وليس العكس.
كنت في الثمانينيات في مدينة (باتيا) بجنوب تايلاند التي يعتبرها السواح من أجمل أمكنة الاستجمام فوق الأرض، وكان عقد الثمانينات من أسوأ العقود التي مرت بليبيا، ورغم ذلك راودني حنين غامر للعودة إلى ليبيا وبأسرع وقت. العودة من أجمل مكان إلى أسوأ زمن. ولا أعرف ما الذي حنيت له تلك الفترة، لكن مثل هذا الحنين هو ما يفسر هذا الحب الذي بإمكانه أن يدحر أية بادرة كراهية للفضاء الذي عشت فيه وتنشقت روائحه ولعبت فيه وكونت صداقاتي وعشت فيه تجربة الحب الأولى. يقال ما مفاده :أننا عادة نحب الأماكن التي تعذبنا فيها. لكن الأمر بعيد عن مثل هذه العلاقة المرضية، باعتبار العذاب من المفترض أن يكون شيئا طارئا في علاقة أزلية لا تخلو من بعدها البيولوجي الذي يربطك بالفضاء الحيوي برمته في هذا المكان الذي شاء القدر أن يكون فضاء لنمو الروح والجسد .
حين عدت ورفاقي من رحلة تايلند تلك ، وحين وصلنا إلى مطار طرابلس، استقبلنا جهاز أمني في المطار بكل الشتائم المقذعة الممكنة، وصبوا علينا جام عقدهم، ولم نستطع الرد أو الدفاع عن أنفسنا لأننا نعرف المصير. كنا نعامل باحترام في كل مطار حطينا به (أثينا ـ بانكوك ـ وحتى مطار سنغافورا الذي تم فيه تفتيشنا بدقة بسبب جوازات سفرنا، لكن الأمر تم بكل احترام، ما عدا مطار الوطن الذي مسح بكرامتنا بلاطه المكتظ بالنفايات والغبار.
حتى وإن انفعلت يوما وجلدت وطني ليبيا، يحق لي ذلك لأنني أحبها كما قال الصحفي الألماني عن ألمانيا التي اختُزلت لردح من الزمن في شخص هتلر وأتباعه المهووسين به.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى