كتَـــــاب الموقع

نافخ الزجاج الأعمى

المهدي التمامي

إنه آدم فتحي،
هذا النفزاوي الباذخ…

عثرت عليه صدفة في ترجمته الفريدة لكتاب اليوميات للشاعر الرجيم شارل بودلير.. لقد مكثت طويلاً وأنا أعيد قراءة المقدمة التي كتبها آدم فتحي، ولم ألتفت لما كتبه الشاعر الرجيم أبداً.. قلت في نفسي، لو أن بودلير قرأ هذه المقدمة لزهد في يومياته.. بودلير الملهم حتى يومنا هذا، منذ أن فجر ينبوع الشعر الجديد قبل مائة وخمسين عاماً.. عندما كان جريحاً بالحياة الضيقة وممزقاً بروح مخاتلة.. إذ روي أنه كان يريد تسمية يومياته بهذا الاسم التطهيري (قلبي عارياً)..

أما آدم فتحي فقد وضع له مقدمة شيقة تناول فيها الشاعر من كل جوانبه.. تحت الاسم المتعدد (يوميات الكائن الأوركسترالي).. لأن هذه الكتابة كانت تجمع كل ما عبّر عنه أو مارسه الشاعر… هذا (الداندي) المنثور على يومياته المزدحمة بكل شيء.. ينظر إلى نفسه من جميع الزوايا.. ينتهج التدمير المثير.. أو كما يقول عنه سارتر “فيه رغبة الطفل في أن يتم التفطّن إليه كي يعاقب”.. أي كي يُهتمّ به أيضاً… لكنه في الآن نفسه يرى إتيان الشر نوعاً من الحب اللذيذ، فالشر (مكمن كل لذة).. أو بتعبير جاك دريدا، الخير القابل للعودة إلى عناصره الأولى في الشر.

تلك هي معرفتي الأولى بآدم فتحي.. بعدها صادفته قرب مقهى الإذاعة، كنت أنا والشاعر الشاذلي القرواشي ضيوفاً على أحد البرامج الثقافية.. قدمه لي الشاذلي، وقدمني له.. قال: هذا آدم فتحي.. قفزت من مقعدي.. حضنته.. قبّلته من اليسار أولاً.. وكأنني استشرفت أنه يساري قديم.. حيث كان طالباً نشيطاً في صفوف اليسار الجامعي، وشاعراً مبشراً بشعرية أخرى على درب ناظم حكمت ونيرودا وأراجوان…

كان يبدو لي كما لو أنه رجل من الأناضول أو من الشام.. شواربه توحي بذلك.. هدوؤه.. دماثته.. اختصاره لكل شيء.. أناقته.. هيبة الشِعر في عينيه اللامعتين كسهمين من نور.. ابتسامته الغامضة المواربة التي تسيل بطفولة ورؤى سماوية تنبع من الصحراء البعيدة.. حذره الشديد من الخطأ والكلام الخفيف.. كان يثقل الكلام بتأمله الذي يشبه الصلاة.. أتذكر أنني قابلته في مقهى مليء برسومات الموسيقا قرب مبنى الإذاعة.. وعرفت أنه يقدم برنامجاً هناك.. منذ أول لقاء أحببنا بعضنا كأخوين فقدا بعضهما منذ زمن بعيد وظلا يذرعان أرض الله وهما ينشدان ضفيرة اللقاء..

بعدها بعشر سنوات تقريبا تقابلنا صدفة في معرض الكتاب.. كان معنا كاهن الليل الفصيح (وحيد الطويلة) الروائي الذي لم ينتبه له القراء بعد.. طفق آدم فتحي لاحتضاني بلهفة شقيق خالص لرحم أمي.. كان معنا الروائي حبيب السالمي أيضاَ صاحب رواية (روائح ماري كلير).. وبعض المثقلين بدمائهم… أهداني كتابه الشعري الفاخر في طبعة دار الجمل (نافخ الزجاج الأعمى).. تأبطه ككنز ثمين.. بعدها قضينا بقية الليل في مقهى ملون بالأضواء قرب مبنى الجامعة العربية السابق.. كتب فيه وحيد الطويلة أغلب نصوص روايته الاستثنائية (باب الليل).. كان الليل يسير بسرعة وأنا أهفو لأن أفتح صدر هذا النفزاوي الشاسع وأرحل عبره إلى جنة السر.. لكن إقامتي البعيدة خارج العاصمة جعلتني أتعجل العودة لظروف العمل الباكر.. وهكذا توقف شريط بهجتهي الحالمة مع آدم فتحي.. إلى أن استعدته فجأة عبر هذه اليد الحبرية التي يمدها لنا دائماً الكينغ كمال العيادي من خلال صفحته المشاكسة على (الفيسبوك).. وهذه المرة كان نافخ الزجاج الأعمى، لمعرفته السابقة بشغفي بهذا الكائن الجميل الذي يدعى آدم فتحي.

_______________________________
* نفزاوة، بلدة الشاعر في الجنوب التونسي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى