كتَـــــاب الموقع

ناصر العلام لحن لم يكتمل

سالم العوكلي

ظهر الثلاثاء الموافق 3 أغسطس 2009، اتصل بي الصديق الفنان ناصر العلام، وقال بصوت مرتبك وحزين: أريدك في أمر هام . فقلت له: تعال الآن أنا في مقر بيت درنة الثقافي. وافق في البداية لكنه فجأة أجّل اللقاء للمساء، فاتفقنا على أن نلتقي الساعة الخامسة والنصف مساء في المكان ذاته، وقبل الموعد بنصف ساعة فتحت باب البيت انتظر مجيئه، لكن قبل ذلك لاح اسم الشاعر عبدالسلام العجيلي على شاشة هاتفي، لأسمع الخبر: عظم الله أجرك في ناصر العلام. لثوان بدا الأمر وكأنه دعابة، غير أنه ليس من عادة العجيلي المزاح بالموت إلا في قصائده.

عادة عندما أسمع خبر وفاة صديق أو قريب تحضرني مباشرة ملامح أبنائه أو بناته، ولأن ناصر غير متزوج، لاحت مباشرة ملامح العود الذي لا يفارقه، وأحسست بيتمه وقطرات الدمع على أوتاره. كان كل مساء يحضر إلى بيت درنة بعوده، ويملأ زواياه بموسيقاه التي كثيرا ما يلبي عبرها ما تريد عيون السامعين سماعه، وبأريحيته ودفئه كان ينتقل بين الشرقي والشعبي محاولاً أن يشبع شغف الحاضرين جميعاً وهو الحريص دائما على أن لا يزعل منه أحد. في الأيام الأخيرة كان يعمل على تلحين مقطع استهواه من قصيدتيربيع درنةوكان يأتي يوميا للعمل عليه بالبيت الثقافي، ويسمعني ما أنجزه في هذا اللحن الذي انغمس فيه بكل حواسه، وكنت أقول له:

ستكون أول موسيقي ليبي يلحن قصيدة نثرية، وكان يبتسم، ويستمر في لحنه الذي لم يكتمل أبدا:

“آه يا صمت النحاس ..

كيف تتلمذ البارود على رائحة الياسمين ..

وكيف أندثر الجسر القديم

كيف تشرد الصيف في صمغ الرطوبة

باحثاً عن مقهاه الظليل؟

كيف تقشرت حوافر الحصان

ومات في عربته الصهيل؟

كيف استدار الزمان

وجار حبق الظل

على قامة النخيل؟!

ليل المعادن كاسر كالريح

ريح المنارة

هامدة دون صفير ..

احمني من ضلالي فيك

يا قوت الذاكرة ،

يا أندلس المنفية فينا

آثمة في لوثة العِرْقِ

في لفتة الغريب

لا نثير الأضرحة يشفع لك،

ولا الجهنمية

المطلة على الجار بالزهور ..

تائه غربالك في وبر الطحين،

وحيض الوادي

نازف في البحر وردَ السرير !!“.

وكل مساء كان يترنم بهذه الكلمات ويسكبها في موسيقاه الطموحة. وكنا نعرف أن ناصر الفنان يخوض تجربة جديدة وكله حماس. غنى ناصر العلام في الحفل الموسيقي الذي أقيم في ختام مهرجان الأسطى، مايو 2009، أغنية المنفرجة للفنان الراحل حسن عريبي، ولم يترك فرصة في أية مناسبة لم يستدع فيها روح حسن عريبي إلى درنة عبر أغنية المنفرجة “اشتدي أزمة تنفرجي .. قد آذنَ ليلك بالبَلَجِ” . كان عاشقاً للمالوف ولموسيقى عريبي، وكان يجهز لعقد إحدى أمسيات صالون الأربعاء الثقافي ببيت درنة الثقافي حول المالوف وحسن عريبي، وقبل أربعة أيام من رحيله كان مازال يغني المنفرجة في احتفال قسم اللغة الإنجليزية بكلية اللغات بدرنة، كما أهدى الأستاذ أحمد الغزواني ـ الذي كُرِّم في هذا الحفل كأول مدرس للغة الإنجليزية بدرنة ـ أغنية: من يستغنى عليك أنت ومن يرضى يخليك.

وحين نزل درج المسرح لوح للجمهور بيده وهو يبتسم ابتسامته الخجولة المعهودة وكأنه يودعهم للمرة الأخيرة. رحل ناصر الفنان لكننا سننتظر كل مساء طلته على باحة البيت بعوده وسنظل نصغي لموسيقاه التي ملأ بها زوايا المكان، سننتظره كما انتظرته مساء الإثنين ولم يأت وسيظل السؤال المؤرق يلاحقني: ماذا كان يريد ناصر أن يقول لي، بعد أن أجل لقاءنا للمساء الذي لن يصل أبدا؟ وهو الذي كان كثيرا ما يؤجل مواعيده .. أجّلَ صالون المالوف أكثر من مرة، وأجّلَ أحلامه وحياته الشخصية في ذروة انشغاله بحياة أسرته، أمه وأخواته اللائي يعيلهن، ورغم أنه لم يتحصل على عمل، ولطيلة سنوات كان ملفه ينتقل من مكان إلى مكان دون جدوى، لكنه كان يتدبر أموره بصعوبة، ولا شاغل له سوى هذه الأسرة التي تحمّل مسؤوليتها مبكرا .

حَلُمَ الفنان ناصر بأن يعطيه هذا الوطن البخيل فرصة عمل يعيل به أسرة هو عائلها الوحيد، لكن أوراقه وأحلامه كانت تتناثر في أدراج مسؤولين عينوا أولاد ذوي النفوذ وهم مازالوا تلاميذ في التعليم الأساسي، وناصر الذي لم يكن له ظهر كان يجيد تمارين الصبر، وكان يهدهد هذا الصبر بموسيقاه التي ينثرها في كل مكان يدعوه في هذه المدينة دون أن يطلب مقابلا هو في أشد الحاجة له، وظلت ابتسامته الدافئة غير قادرة على محو هالة الحزن التي تكسو محياه. وداعا يا ناصر وسننتظرك كل مساء تطل علينا بعودك وحزنك وابتسامتك وسننصت كل مساء لأنغامك التي كثيرا ما وضعتك في قلوب الرفاق الذين بكوك كثيرا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى