كتَـــــاب الموقع

نار تأكل نفسها وتضيء

المهدي التمامي

إلى الشاعر مفتاح العماري

سررت كثيراً وأنا أطالع الاحتفاء بقيمتك الإبداعية والإنسانية على حد سواء. فقبل أيام قليلة مضت لم يغفل (مجانين قصيدة النثر) الذين احتفوا بتجربتك الشعرية المضيئة عن الجانب الشفاف في تكوينك النفسي، وهذه الحساسية العالية تجاه كل المعاني السامية للإنسان.. وهذا ما أكد عليه جان جنيه، بأن وراء كل جمال إبداعي هناك أخلاق.

كان علي أن أقول لك أيضاً: لا تبتئس يا أخي!

فهذا الدرب المليء بالمتاعب والشقاء الذي نسير فيه، وسرت فيه قبلنا بطمأنينة وعزيمة وصبر النساك، يجب أن يكون الشرط اللازم لأي إنتاج روحي.. فإنك وإن كنت الأكثر عرياً من المبتسرين، إلا أنك حافظت على طهارة شعرك، عكس أولئك المبتسرين الذين تملقوا وتزلفوا.. وقدموا أنفسهم على صحاف النفاق والأنانية والشح القيمي الفظيع لما يكتبون، وها أنت ذا تشهد بنفسك أن صفة الشاعر صارت مقتحمة ومشوشة أكثر من أي وقت مضى.. وصار الجميع بفضل الفضاء الافتراضي، يكتبون وينشرون…!

أخي،،،

الأخوة التي لا أعرف كلمة تقربني منك أكثر منها، إنها كلمة لا سلطان عليها، وهي دليلي إلى شعور مجهول يجعلني أحبك بعنف (آسر)..!

هل لأنك شاعر يضع الصوى ويرفع الحجر على معابرنا؟ هل لأنك عقدت قرانك الأبدي على تلك اللغة الطازجة التي جعلتك بأسرك تمشي وحيداً، فزحفت مزاميرها واشرأبت قبالة الموت بسلم ثقوب ألوهي الغناء؟ وهل لأن رامبو قال ذات يوم عبارته الشهيرة التي صارت دستور الشعراء في كل مكان “الشعراء إخوة”..؟ إذن علينا أن نؤمن ونردد مع شاعر آخر، هو بابلو نيرودا، أنه لنا الحق في أن نكون سعداء، على أساس أن نكون متحدين.

أكتب إليك من طرابلس، مدينة الظلال الهادئة، والغواية المتوهجة. أكتب… والكلمات تتزاحم في ذهني، تتشكل وتتقاطع، تتفكك وتجتمع، ولا يجد عقلي ما يستند إليه حيث أحسه كهوة خرساء تشرق منها متاهة التساؤلات.. أحاول أن أتكلم بلغة قريبة من التجلي والتشوف العظيم.. وهذا هو ديدن الشعر الحقيقي، أن ينأى عن التعالي ويجذر الجمال ومحاسن الأشياء في هذا العالم، ليحصل من بعد ذلك هذا الكائن الرقيق الذي يدعى الشعر، كإدراك وانهمام، على قيمته. الشعر… إنه التقصي واقتفاء أثر القبضة والعجل المجاز الذي لا شتات بعده.. قلق يسعى لاستعادة اليقظة واستدعائها ليستقر، ليتلاشى التأرجح بين الأشياء وبين الأبنية.. اليقظة هي الفاعلة الوحيدة: أنتم الناس أيها الشعراء.. لتستمر بكارة الإحساس لما يستحق أن يضاف لكينونة غير مكتملة. مغامرة بعيدة عن الصدفة. حروف تنفر من حروف لتتعاضد مع اختلاف يفسخ الوهم العلائقي وينفي كل سلطان قبلي..

أيها الآسر،،،

ما زلنا نتعلم منك درس الشعر، ودرس الشرف الباهر، والمحبة المليئة بالتضحية والدأب الحصيف.. كلها دروس تعلم الأخوة الظافرة التي نُهدَّد بغيابها من قبل الطامعين في غنيمة الأدب المتاحة للأراذل، عشاق الدياجير التي كان جمال أمثالك يزهر فيها وينيرها.. ستخلد بيننا شاعراً ذهبياً، فأنت تعرف بحدس الرائي حرقة كل هذا الحنين الملتهب إليك في هذا العبور الشعري المهيب أيها الضوء الذي لا ينفد…!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى