كتَـــــاب الموقع

مهرجان هون مستمر لربع قرن .. ولكن

كتابة وتصوير : عبدالوهاب قرينقو

مهرجان الخريف السياحي الدولي.. انطلق في مدينة هون سنة 1996 ومذاك صار رقماً مهماً، ورمزاً أكيداً، على خارطة السياحة الداخلية الليبية، وملمحاً من سمات الثقافة الليبية.. 25 عاماً تركت بصمتها الراسخة على دفتر الأيام الليبية الحديثة ولكن:

مهرجان هون

(1)
المتطوعون بين الأمس واليوم

من يصنع خريف كل عام؟ .. شهر قبل إطلاق الدورة الأولى قبل 25 عاماً، تنادى أكثر من 300 متطوع ومتطوعة من أبناء مدينة هون، هذا عدا عن متطوعين بالعشرات من مدن مجاورة أخرى ضمن بلدية الجفرة، حيث خصّصت الدورات الثلاث الأولى بين عاميْ 96 و98 اليوم الثاني من كل دورة للانتقال تباعاً إلى مدن زلة وودان وسوكنة والفقهاء.. وعلى الرغم من الدعم المعقول في بادئ الأمر من وزارة السياحة آنذاك، “أمانة اللجنة الشعبية للسياحة”؛ إلا أن أهل هون ومن تعاون من أهل مدن الجوار، لم ينتظروا ذاك الدعم، على أهميته، بل شمّروا عن سواعدهم لإظهار مهرجان الخريف في أبهى حلة نحو اعتماده رسمياً على خارطة المهرجانات المماثلة، وخاصةً التي سبقته كمهرجان غات ومهرجان غدامس، ولاحقاً مهرجان درج وغيره الكثير، منها ما استمر ومنها ما تبخر.

في خريف 96؛ التفّ الجميع حول إدارة المهرجان في هون، فتحولت مدينة بكامل شوارعها وميادينها إلى موقع كبير موحد لاحتضان المهرجان الوليد.. وسُمّي حينها بمهرجان التحدي.. وكل أفراد فريق المتطوعين الموزع على أكثر من عشر لجان كانوا يداً واحدة، يكدون دون انتظار أي عائد مادي ولا حتى معنوي، ليستمر هذا العطاء طيلة الدورات وحتى خريف 2000، حيث الدورة الخامسة، التي شهدت مزرعة الفوارة أول احتضان لها للمهرجان بعد أن كان ميدان الأندلس، الواقع بين الفيلاتجو والبريد ومقر الكشاف؛ حاضناً للدورات الأولى في حفلات الافتتاح والسهرات.. ومقر نادي الإخاء موقعاً لإدارة المهرجان ولجانه المختلفة.. بعد ذلك خفت العمل التطوعي نوعاً ما، ولم يتلاشَ فيما كان المهرجان يكبر، وبحاجةٍ ماسّةٍ لدعم الدولة التي تناقص، مع السنوات، “مددها” ليصل إلى مبالغ زهيدة، تغطي بالكاد عرس شخص ما، فما بالك بمهرجان دولي ذاع صيته في كامل التراب الليبي، فظهر تناقص المتطوعين وانعكس على الدورات اللاحقة.. فصار نجاح كل دورة مرهوناً بما تحصل عليه اللجنة الأهلية من أموال، أو بزيادات في تعداد المتطوعين في أعوام محددة.

منذ خريف 1996، كنا نضع احتمالية توقف المهرجان لو نضب معين المتطوعين أو شحّ الدعم الحكومي.. لكن في كل موسم تنهض المدينة، رغم الصعاب، بإصرار المتطوعين الذين صمدوا مع أن الكثير من المهرجانات المماثلة قد توقفت أو بهتت بمجرد توقف الدعم السخي من السياحة، ففي حين أن أكثر دعم تلقاه الخريف في منتصف التسعينيات كان 70 ألف دينار، كان أقل دعم للمهرجانات الأخرى؛ يتجاوز 150 ألف دينار، في محاباةٍ واضحةٍ لتلك المهرجانات التي بدأ خريفنا يسرق منها الأضواء، وبالليبي “ياكل منها الجو”، رغم اعتماده على سواعد العمل التطوعي، لا معونات الحكومة “البخيلة”.. والجميع يعرف أن أحد تلك المهرجانات توقف؛ عندما لاحظت الوزارة نهباً بائناً للأموال، فأرسلت لجان مالية من العاصمة طرابلس للإشراف على الصرف، مما أثبت أن التطوع هو من أبقى مهرجان الخريف دون توقف، طيلة 25 عاماً، في حين “دلعت” الوزارة مهرجانات أخرى.. ولكن بالنسبة لخريفنا؛ هل يصمد العمل التطوعي أكثر؟، لا سيما مع تنامي ظاهرة المقابل المادي من أفراد وجهات من المتطوعين الجدد خاصةً بعد 2011 م.

(2)
“مهرجان كبير ف بلادي”

نعم .. هكذا غنى فنان هون الشعبي وعندليبها الأسمر الحاج أحمد جداد، حفظه الله، صاحب الأغنية ذائعة الصيت “م المغرب تقوى ناره”، التي كتبها وغناها في الستينيات، وسرقها منه فنانو “الشمال” في السبعينيات، وحميد الشاعري ولطيفة فيما بعد التسعينيات دون أن ينال درهماً واحداً ولا حتى حقاً معنوياً بالاعتراف وكتابة اسمه عندما تبث الأغنية.. لم يغب “جداد” عن المشاركة في خريف هون بأغانيه، وكتب وغنى.. وغنى معه عشرات الآلاف من عشاق الخريف في التسعينيات: “مهرجان كبير في بلادي”.. نعم وفي كل نسخة؛ يكبر المهرجان أكثر، وتتنوع مفرداته، وبالتالي جمهوره، مما يترتب عليه تجهيزات أكثر، وضيافات أكثر، ومصاريف لا طاقة لأهل المدينة بها؛ كونه مهرجاناً تجاوز حدود هون والجفرة إلى كامل التراب الليبي، وفي حين كان يبنغي مع ذلك التمدد، فتح مجال للناس لأن تستثمر فيما يقدم من خدمات وحتى تجهيزات؛ إلا أن العبء الأكبر كان على إدارة كل دورة، وعلى اللجنة الأهلية الدائمة، فعاليات تتناسل كل دورة وعروض تتمدد و”العين بصيرة واليد قصيرة”.. من هنا، ينبغي على إدارة كل دورة ألا تفتح الباب إلا بحسب الإمكانات فتحسب ما تيسر لها من ميزانية، وعلى ضوء دراسة الجدوى؛ تتم الدعوات والاستضافات، وما تبقى يترك لأهل المدينة يستثمرون في الإيجارات للاستضافة، وأي جهة أهلية تريد أن تستضيف؛ تتكفل بمن استضافت، ناهيك عن الرعاة والداعمين بتحديد شروطهم قبل فترة كافية من انطلاق كل دورة، والابتعاد قدر الإمكان عن “الشغل العشوائي وجو الحشايم”، إن أردنا التوفيق بين الممكن واللاممكن.. أيضاً تحديد هوية المهرجان، ومحاوره الثابتة، وتلك التي على هامشه.

(3)
التقاعس الحكومي .. التمويل المنتظر

لا يمكننا الحديث عن المطالبة بالدعم الحكومي دون تحديد هوية المهرجان، ففي الدورة الأم لخريف هون، عام 1996؛ كانت التسمية المستمدة من هوية المهرجان هي: “مهرجان الخريف السياحي لمنتجات الصحراء وفنونها وتراثها”، وإن اضطلعت به، في البداية، وزارة السياحة، وانطلق تحت مظلتها؛ إلا أن أكثر من وزارة أخرى معنية بدعمه، كوزارة الثقافة والإعلام وحتى الصناعة من باب الصناعات التقليدية والتراثية بل وحتى وزارة الزراعة كون أن من أهم محاور الخريف النخلة وتمورها ومنتجاتها؛ ليتحول إلى مهرجان تصرف عليه الدولة عبر كل هذه الوزارات وتجني منه مورداً اقتصادياً، إن أردنا للسياحة أن تكون مورداً ضمن الموارد البديلة للنفط، ولكن كل هذا أحلام ماضوية، وفي وقتنا الحاضر، في ظل الفوضى والتشظي السياسي؛ تجاوزت الأحلام لتدخل في المستحيلات، ولكن وزارة السياحة ومعها وزارة الثقافة، تُصرف لها، اليوم، ميزانياتٌ معتبرةٌ يذهب أغلبها سدىً في مهرجانات عبثية وأعمال ثقافية وفنية بدائية تلقى بالكاد جمهوراً لها، فيما يُهمل مهرجان الخريف ذي القيمة العالية والصيت الحسن.. من هنا ينبغي على “آل الخريف” تحديد مصير علاقة المهرجان بالحكومة، إما افتكاك الحق أو طلاق بيّن، ولنُعلن بشجاعة أنه مهرجان أهلي يتدبر أموره عبر القطاع الخاص، عبر الشركات الخاصة والعامة، والتبرعات من أهل المدينة، وتتم معاملة الوزارات المقصرة بجفاء كامل، ولا يتم تمكينها من الاستفادة من المهرجان.. وأهل هون قادرون على ذلك، ولتبيّن الدولة، هل هي داعمة للمهرجان؟ أم يتدبر المتطوعون أمورهم بأنفسهم عبر القنوات المذكورة بل وحتى مع منظمات من خارج البلاد من دول شقيقة أو أجنبية ضمن العلاقات الحرة، كما يفعل الجميع في “عهد اللادولة”.

(4)
خريف الغد

التمويل ليس هو المعضلة الوحيدة لديمومة المهرجان، فالأهم تطويره فمن الممكن أن تجعل من مهرجانٍ ما يتواصل دون انقطاع لمدة 100 عام نحو المستقبل، ولكن الصعب هو تطويره والحفاظ على محاوره الرئيسة وهويته “الأصلية الأصيلة”، دون أن يأكلها الهامش، أو يهيمن عليها المشارك من خارج المدينة الذي له احترامه وتمكينه من المساهمة لكن بقدر محدد.

يقول المثل “لا تضع البيض في سلة واحدة”، والمهرجان الأم يذكرنا بالنادي الأم المستوعب لكل شيء حين انطلاقته في فبراير من عام 1951، دشن أهل هون أول نادٍ رياضي ثقافي اجتماعي، على مستوى منطقتيْ الوسط والجنوب الليبيين، وهو ضمن الأندية الأربعة الأول تأسيساً على مستوى ليبيا، وسبق تأسيسه قيام المملكة الليبية بعشرة أشهر، هو “نادي هون الأهلي”، ولأنه أول مؤسسة وأول كيان أهلي ترويحي تثقيفي اجتماعي في المدينة، بل وفي عموم منطقة الجفرة؛ فقد تجاوز الرياضة والثقافة والاجتماع، فحشر فيه أهل المدينة كل مناشطهم، وكل رغباتهم، وصار هو المؤسسة الأم التي تستوعب كل شيء، ولكن مع الزمن استقلت فرقة الموسيقى، تقريباً في 1983 م، لتتأسس فرقة بذاتها لها كيانها وهويتها ومناشطها الخاصة وإدارتها، وكذلك فرقة مسرح هون في 1996، كما تأسست كيانات أخرى أولها الكشاف قبل ذلك في الستينيات، ثم بيوت الشباب مطلع الثمانينيات، والهلال الأحمر، وتباعاً العديد من المؤسسات الأهلية والشبابية.

smartcapture

ومهرجان الخريف يُكرر الحكاية نفسها.. ولأنه المهرجان الوحيد تقريباً في المدينة منذ 1996؛ فإن كل مناشط هون تُحشر في هذا المهرجان، مما جعل الحمل أثقل، فيا حبذا لو كان ثمة موعد لمهرجان مستقل للفروسية.. وأيام ثقافية أدبية فنية حديثة تختار فصل الشتاء مثلاً، ومهرجان صغير للموسيقى الحديثة من “ريقي وبلوز وراب وروك”، ومسابقة في موسم آخر للسيارات، ومعرض ثابت للرسم، وغير ذلك ما يُخفّف العبء عن مهرجان الخريف، وليس المقصود من ذلك إقصاء هذه الفعاليات المهمة من المهرجان، ولكن يمكن أن تقدم بصور مصغرة مختصرة تواكب الفعاليات الرئيسة المعروفة، والتي تمثل هوية مهرجان الخريف، كالفنون الشعبية وأهازيج الأطفال والتراثيات الفنية القديمة من أزياء وغيرها، وتجسيد حياة المزارع ووسائل النقل التقليدية عبر الصحراء، ومنتجات النخيل من تمور وسعفيات، والمناسبات الاجتماعية القديمة، وتفاصيل المدينة القديمة، ولعبة الصراع، وزيارة البلاد الحويلة، وغير ذلك من أساسيات المهرجان.

ختاماً.. عذراً على الإطالة وما كتبت هنا ليس خارطةً ملزمةً أو أفكاراً موجهةً، بقدر ما فكرت معكم أيها القراء بصوتٍ عالٍ ونوعٍ من العصف الذهني؛ مساهمةً مني في تلمّس بعض النقاط الجوهرية، أو تلك التي أرى أنها كذلك، من أجل تطوير “خريف هون”، وليتقدم كلٌّ بأفكار معينة تُشكّل، مجتمعةً، خطةً منهجيةً وفاعلةً لاستمرار المهرجان بالشكل الذي تصورناه وأطلقناه في منتصف تسعينات القرن الماضي.. وأفضل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى