مقالات مختارة

ملياردير “البيت الأبيض”

سوسن الأبطح
يرفض دونالد ترمب أن يمر رئيسًا عابرًا للولايات المتحدة. هو ليس باراك أوباما، ولا جورج بوش الابن أو حتى الأب، وليس جيمي كارتر أو بيل كلينتون. هؤلاء كانوا وبالاً – في رأيه – على الشعب، ولم يستجرّوا غير ثروات وانتصارات ورفاهية بقيت حكرًا على نخبة صغيرة، بينما حرم منها بقية الأميركيين. لم يراعِ ترمب في حفل تنصيبه دبلوماسية، قالها بنبرة قاسية، لوح بقبضتيه في الهواء كزعيم من العالم الثالث، نفث كلماته في وجه سابقيه، الذين كانوا حوله، دون أن ينظر إليهم: هؤلاء «آثروا الصناعات الأجنبية على صناعتنا»، «ساعدوا جيوش غيرنا على حساب جيشنا»، «حموا حدود الآخرين وتركوا حدودنا»، «أنفقوا تريليونات الدولارات في الخارج وبنيتنا التحتية انهارت». وصفهم دون مواربة بأنهم «سياسيون يتذمرون ولا يفعلون شيئًا». مع ترمب «انتهى وقت الحديث الفارغ وحانت ساعة العمل».
لم ينتظر الرجل ليثأر لنفسه، من طبقة سياسية ناصبته العداء، من إعلام سخر منه، من فنانين قاطعوا احتفاليته.
لا يقبل دونالد ترمب بأقل من صورة «المخلّص»، «القائد الأعظم»، الزعيم الذي يعيد «السلطة إلى الشعب» ويقول لمناصريه بثقة «إن حركة تاريخية لم يشهد لها العالم مثيلاً من قبل» قد انطلقت لحظة وصوله إلى البيت الأبيض. إطلالته، حركات يديه، نظراته الحادة، جديته المفرطة حتى وهو يقبّل أفراد عائلته، خطابه المليء بالكليشيهات والعبارات الرنانة التي تليق برؤساء بدايات القرن الماضي، كلها تدل على أن ترمب لا ينوي مهادنة. لكن هذا لا يعني أن الأرض ستكون ممهدة.
نرجسية أم وطنية، نزق أم شجاعة، كبرياء أم جنون عظمة، من يدري؟ كل ما نعرفه أن ترمب يتحدث عما لا يريد، أكثر من أن يشرح ما سيفعل. وأن خطاب التنصيب لم يزد المرحلة المقبلة إلا غموضًا ونياته ضبابية، خصوصًا أنه لم يتحدث عن علاقات بلاده مع دول خارجية إلا من نافذة القومية الحماسية.
الأخبار المسربة تشي بمشاريع غير شعبية، على عكس الوعود الوطنية التي خلبت الآذان، كـ«أميركا أولاً»، والمنتجات الوطنية، واليد العاملة. عين الرئيس على أموال الثقافة والفن والإعلام وحتى البيئة. مدفوعات كثيرة يراها غير ذات جدوى. فريق ترمب جهّز خطة ستعرض على «الكونغرس» لوقف الميزانية المخصصة لـ«الصندوق الوطني للفنون» الذي يموّل مشاريع إبداعية وتربوية. ربما أن الرئيس الآتي من عالم العقارات والمضاربات لا يعرف أن أميركا فرضت نفسها على العالم أجمع بفضل المخيلة والابتكار، وأنه لولا نتاجات «ديزني» و«هوليوود» ومسارح «برودواي» العامرة و«متاحف الفن» المبهرة لما كان «الحلم الأميركي» موجودًا في ذهن أحد. أسوأ من ذلك، أن المشروع الترمبي الذي سيكشف عنه قريبًا جدًا يرمي أيضًا إلى وقف ميزانية «مؤسسة البث العام» التي تموّل نتاجات للمسموع والمرئي. كل ما لا يلائم رغبة ترمب، سيكون عرضة للحرمان المادي. على سبيل المثال، مساعدات ضحايا العنف الزوجي في وزارة العدل، «مكتب تطوير الطاقة البديلة» في وزارة البيئة، وكذلك «الصندوق الوطني للقضايا الإنسانية».
تقرأ عن خطط بهذه الحساسية لبلد كأميركا، وتتساءل مستغربًا: «ما الذي سيحل بكل برامج التبادل التعليمية التي اشتهرت بها ومولتها بسخاء؟ وكيف سيكون حال المنح الدراسية للأجانب؟ وعشرات البرامج التي سمحت لملايين من طالبي العلم حول العالم منذ الحرب العالمية الثانية، بالاستفادة، والتعرف على البلاد، والبقاء على تواصل مع ثقافتها وفكرها؟ سبعمائة ألف شخص ذهبوا إلى أميركا خلال الثلاث عشرة سنة الأخيرة وتلقوا تعليمًا أو تدريبًا، مغطى التكاليف، بفضل الميزانيات المخصصة لهذا الغرض».
تقصّد الرئيس الجديد، خلال تنصيبه، أن يضرب على وتر موجع لكثير من مواطنيه. خاطب أولئك الذين أصابتهم هجرة المصانع في صميم عيشهم. ومن جعلتهم اتفاقات التجارة الخارجية بلا سقف أو أمل. لا بد أن تصدّق خطابات ترمب، حين ينقطع بك الرجاء وتتعلّق بحبال الكلمات، وتطرب متى أشعرك أن كل آلامك «باتت من الماضي ونحن نتطلع إلى المستقبل». عندها لا تملك غير التصفيق وإن خالجك قلبك بغير ذلك.
لا شيء يؤكد أن أميركا سيكون بمقدورها أن «تمسح الإرهاب عن وجه الأرض بالكامل» أو أن تعيد ترميم بنيتها التحتية المتهالكة دون تضحيات قد تودي بوحدتها الداخلية. ما هو واضح أن الرئيس في بحث مضنٍ ومكلف، عن أموال يحتاجها ليفي ببعض من وعوده. وأن ما يصلح من استراتيجيات لتشييد الأبراج والكازينوهات والشقق السكنية، قد لا يكون هو نفسه قابلاً للتطبيق في بناء مستقبل شعب، بدأ يعتقد أن الانسحاب من التزاماته القديمة مع الشعوب الأخرى سيكون سهلاً.
ربما أن العبارة الأدق التي نطق بها ترمب كانت في مطلع خطاب التنصيب حين قال للحاضرين: «معًا سوف نحدد مسار العالم لسنوات مقبلة». الدول تتأهب، نائب المستشارة الألمانية زيغمار غابرييل يتوقع «أوقاتًا صعبة» ويدعو لرسم «استراتيجيات جديدة». كندا أجرت تعديلاً وزاريًا استعدادًا للمرحلة، ولإعادة التفاوض مع أكبر شريك اقتصادي وأمني لها. بعض المتشائمين في فرنسا يخفضون نبرة الانتقاد، لعل الرئيس الجديد يصبح أكثر هدوءًا بعد دخوله البيت الأبيض. ولكن ماذا لو صدقت مخاوف الباحث الاقتصادي الأميركي باري أيشنغرين، و«تصرف ترمب بعد تسلمه السلطة، كما يفعل الفيل حين يجد نفسه في مخزن للخزف»؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صحيفة “الشرق الأوسط” اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى