كتَـــــاب الموقع

مدخل

ليست مكانا خاليا ولا مجزِّءا: الصحراء الكبرى جسر

ترجمة عمر أبو القاسم الككلي لجزء من مقدمة كتاب جسور عبر الصحراء للكاتب د. علي عبد اللطيف حميدة

لماذا هذا الكتاب*: الأساس والفحوى

تبلورت الفكرة الكامنة وراء مشروع تحرير هذا الكتاب نتيجة دوافع بحثية وشخصية. فأنا ولدت في الوسط من ليبيا ونموت في منطقة من الصحراء الكبرى جنوب ليبيا هي فزان. وكانت أسرتي تتمتع بروابط قوية مع أفريقيا الصحراء الكبرى والشمالية. فجدي الأول علي عبد اللطيف مدفون في زندر بالنيجر وجدي وجدتي عاشا في المنفى بشمال تشاد، وأمي ولدت بفايا، بتشاد أيضا. أبي وأسرته كانوا يترحلون بين تشاد والنيجر إما لغرض التجارة أو لانخراطهم في حركة المقاومة ضد الاستعمار خلال النصف الأول من القرن العشرين. هذه الخبرة المباشرة كانت عونا لي في أبحاثي حول الجوانب التاريخية والسياسية للصحراء الكبرى وشمال أفريقيا في العصر الحديث.

هذا الكتاب يتأثر خطى كتابي الأول “وراء الاستعمار والقومية في المغرب: التاريخ، الثقافة، والسياسة” (نيو يورك) الذي قمت بتحريره والذي راجع بدقة الدراسات الأكاديمية حول المغرب الذي كان يعرف بشمال أفريقيا الإسلامي العربي. مجموعة دراسات الكتاب الحالي تطبق التحليل النقدي ذاته على الصحراء الكبرى وتقدم رؤية بديلة عنها من حيث كونها جسرا بين شمال أفريقيا وغربها، وليست صحراء خالية.

نشأت فكرة هذا الكتاب أثناء اشتغالي على مراجعة الأوراق المقدمة إلى مؤتمر دولي عن تجارة الصحراء الكبرى بإشراف مركز الدراسات الليبية واللجنة الشعبية لواحات شرق ليبيا. انعقد المؤتمر في واحة جالو الليبية في الفترة 25-30 نوفمبر 2006، في يناير 2006 سعدت حين طلب مني محررو الكتب بكامبردج كتابة مقترح بتحرير كتاب يكون الأساس فيه أوراقا منتقاة من الأوراق المقدمة في المؤتمر. سيفصل هذا المدخل الطريقة التي رتب بها الكتاب من حيث تحديد مواضيعه وترتيبها وسياقها التاريخي وإطار العمل والإسهام النظري الأوسع.

في العقود الثلاثة الأخيرة تحدى جيل جديد من الأكاديميين التيار الأكاديمي السائد المتخصص في الوطن العربي وأفريقيا والعالم الإسلامي، وقد استخدم نقاد هذا الحقل مناهج ومفاهيم مقترضة من الماركسية الجديدة والحركة النسوية وما بعد الحداثة وما بعد الاستعمار. وهذا الكتاب حرر بإلهام وتأثير من النقاشات الدائرة داخل هذه المنظورات النقدية الصاعدة، خصوصا دراسات التابع، والتاريخ العثماني الاجتماعي الجديد والنقاش المتعلق بالاستشراق ودراسات ما بعد الاستعمار في الدراسات الأفريقية**. مجموعة المقالات المتعلقة بتجارة العبور في الصحراء الكبرى في هذا الكتاب تزودنا بنقد للصورة والمفهوم المهيمنين، في الدراسات المتعلقة بأفريقيا والشرق الأوسط، اللذين يظهران الصحراء الكبرى مكانا عازلا وخاليا، وتقترح، في نفس الوقت، نموذجا جديدا لهذه الصحراء باعتبارها جسرا.

غاية هذا الكتاب المحرر إعادة التفكير في تاريخ المقولات الاستعمارية والوطنية وتحليل أفريقيا الحديثة من خلال التكامل والنظر إلى التجارة الأفريقية في الصحراء الكبرى من حيث هي جسور تربط جهات شمال ووسط وغرب أفريقيا ببعضها. يحقق هذا الكتاب هدفين: أولا، يقدم نقدا للكتابات التاريخية الوطنية وكتابات ما بعد الاستعمار والكتابات الاستعمارية وكذلك البحوث الأكاديمية الحالية المتعلقة بأفريقيا الشمالية وأفريقيا الصحراء الكبرى. ثانيا، يقدم سردا بديلا لتواريخ منسية تتعلق بتجارة الصحراء الكبرى منظورا إليها كهمزة وصل بين الشمال وجنوب هذه الصحراء.

مجال الدراسة: السياق التاريخي والنظري

واجهت المجتمعات الأفريقية في الشمال والصحراء الكبرى تناقضات متفاوتة سببها الاستعمار والحداثة الغربية والدولة-الأمة وانهيار الدولة والتحلل والاغتراب. ومقالات هذا الكتاب تستكشف التشوشات ambiguities والإخفاق وحالات الصمت التي صنعها الباحثون الوطنيون والاستعماريون، مقدمة استراتيجيات ورؤية أكاديمية بديلة لدراسة التاريخ والثقافة والعلاقة بين الدولة والمجتمع في شمال أفريقيا والصحراء الكبرى خلال القرنين التاسع عشر والعشرين. بؤرة تركيز هذا الكتاب الأساسية التدقيق في السياق التاريخي وبنية الاقتصاد السياسي لتجارة الصحراء الكبرى واستعادة أصوات وفاعليات الناس العاديين في ردات فعلهم باستراتيجيات مختلفة من أجل البقاء، في مواجهة الضغوطات الداخلية والفرص، وخصوصا التجار، الطرق الصوفية، الفلاحين، رجال القبائل، النساء، العبيد، والناس ذوي الغايات والخلفيات المختلفة، الذين ساهموا في هذه التجارة العالمية.

منذ القرن التاسع عشر وحتى القرن العشرين سيطرت الكولونيالية colonialism على دراسة تاريخ شمال أفريقيا، وما يسمى “جنوب الصحراء الكبرى” والمغرب بالمعنى الواسع. وأيا كان الأمر، فمنذ منتصف القرن العشرين استولت الحركات الوطنية التي قادت الكفاح من أجل الاستقلال على سلطة الدولة وأنتجت تاريخها الوطني الخاص. وباختصار، لم تصغ الكولونيالية والوطنية تاريخ وسياسات المنطقة، وإنما ابتكرت أيضا تصنيفاتها الخاصة، ومفاهيم ونظريات الشرعنة legitimating. إنتاج المعرفة غالبا ما يكون مرتبطا بالظروف ومقيدا داخل حدود اجتماعية ومؤسساتية. فعلم الاجتماع الحديث تطور من خلال الاستجابة للمشاكل الأوربية وفي مرحلة تاريخية كانت فيها أوروبا تسيطر على العالم، بما في ذلك المغرب. وقد أدى ذلك إلى فرض تقسيم الدراسات الأفريقية إلى دراسات حول شمال الصحراء الكبرى وجنوبها، على افتراض أن الصحراء الكبرى كانت منقسمة وحاجزا فارغا. وهكذا كان من الضروري خلال عصر الإمبريالية والاستعمار أن يعكس علم الاجتماع الغربي الخيارات الأوربية للمواضيع والنظريات والتصنيفات وعلم أصول المعرفة epistemology. والمثال الدال هو التقسيم الاستعماري للدراسات الأفريقية إلى دراسات شمال الصحراء الكبرى ودراسات جنوب الصحراء الكبرى، الذي قبل في الأوساط البحثية الأكاديمية الجديدة: حيث ضُمَّ شمال أفريقيا إلى “جمعية دراسات الشرق الأوسط Middle East Studies Association”، على حين أن ما يسمى أفريقيا “جنوب الصحراء الكبرى Sub-Sahara” أحيلت إلى “جمعية الدراسات الأفريقية Association of African studies”. هذا التصنيف الاستعماري قُبل بدون نقد من قبل القوميين الأفارقة واستمر يعاد إنتاجه في منعطف القرن الحادي العشرين.

استتبع ذلك أن الكتابات التاريخية القومية العربية/ الشمال أفريقية والأفريقية جنوب الصحراء الكبرى عارضت توجه الاستعمار البريطاني والإيطالي والإسباني والفرنسي، إلا أنها أبقت على قبولها للنمط الذي وضع من قبل البحث الاستعماري، بما في ذلك تعريف المغرب والصحراء الكبرى على أنهما حد فارغ، والتحقيب التاريخي، ونموذج الدولة القومية، وفكرة التقدم. إن معنى اسم منطقة المغرب، في حد ذاته، قد بني تاريخيا، واسم ليبيا اخترع من قبل الدولة الاستعمارية الإيطالية في منعطف القرن العشرين. ولقد تأثرت النخبة الوطنية في المغرب المعاصر النمط الموضوع من قبل الاستعمار الفرنسي، الذي قلص المغرب الإسلامي الواسع وأعاد تعريفه ليقتصر على مستعمراته في الجزائر وتونس ومراكش. إن إعادة تقييم حذرة لوحدة المنطقة يتطلب تحليلا أوسع للتقاليد السياسية قبل الاستعمارية.

صحراء الصحراء الكبرى نادرا ما كانت حاجزا يفصل الأجزاء الشمالية والوسطى والغربية للقارة. بل على العكس، فلقد كانت الصحراء ومازالت تشكل جسر تواصل يربط شمال أفريقيا وغرب أفريقيا وبلدان جنوب الصحراء الكبرى. كان هذا الارتباط واضحا في غالبية العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية المهمة. لقد وجد طريقان أو جسران رابطان عبر الصحراء الكبرى. الأول، طرق الحج من شمال غرب أفريقيا إلى الأماكن المقدسة في شبه الجزيرة العربية. الثاني، الطرق التجارية بين وسط وغرب أفريقيا وسواحل شمال أفريقيا. ولقد امتدت هذه الطرق التجارية عبر الصحراء الكبرى، من درب العرباسن في مصر والسودان شرقا إلى أقصى الحدود الغربية للسنغال وموريتانيا ومراكش. وإذن فإن الروابط بين بلدان شمال أفريقيا وواداي وبورنو وكانم وزندر وآير وغيرها وجدت منذ حقب ما قبل التاريخ. الأصول قديمة وعززت بواسطة الفتح الإسلامي واستدام حضورها حتى أيامنا هذه.

* جسور عبر الصحراء Bridges Across the Sahara والترجمة هنا لجزء من المقدمة.

** استغنينا عن ترجمة هوامش الكاتب نظرا لطولها.

زر الذهاب إلى الأعلى