اهم الاخباركتَـــــاب الموقع

محنة التأريخ الليبي بين “السياف” و “العراف”

سالم العوكلي

اقترحنا عنوان “نقد الكتابة التاريخية” كندوة رئيسية في الدورة الثانية من مهرجان الأسطى للفكر والفنون الذي أقامته جمعية بيت درنة الثقافي شهر أبريل العام 2010 . وقد شارك في هذه الندوة بأوراق مهمة، كل من: نجيب الحصادي، عارف النايض، عمر الككلي، يوسف الشريف، نوري الماقني، حسين المزداوي. ومحمد الفقيه صالح، الذي قدم بحثاً بعنوان : الانتقائية التاريخية : بين المقتضيات المنهجية وتدني الوعي التاريخي . وهي الورقة التي سأركز عليها، لسببين: أولهما، أهميتها وتوافق رؤاها مع ما حدث في ليبيا بعد سقوط النظام من إعادة لتدوير المسكوت عنه أو المحرف في التاريخ الليبي المعاصر بشكل أسهم في إجهاض الشعور الوطني الذي انبثق بقوة فترة حراك فبراير، عبر تأجيج الصراعات الجهوية والإثنية والقبلية الحادة التي وضعت البلاد على حافة أن تكون أرخبيلأ من الأوطان الصغرى.
ثانيا: لكون هذه الورقة هي الوحيدة التي في حوزتي الآن باعتبارها منشورة في كتاب محمد الفقيه صالح “في الثقافة الليبية المعاصرة ـ ملامح ومتابعات” الصادر حديثا عن دار الرواد بطرابلس . وباعتبار باقي المشاركات كانت ضمن الأرشيف الموجود بمقر بيت درنة الثقافي الذي استولت عليه بعد أيام من هبة فبراير جماعة دينية مسلحة بكل ما فيه ، إذ كنت في طور جمعها لتحرير كتاب نقدي للتاريخ الليبي سيكون الأول من نوعه، وليكون باكورة إصدارات بيت درنة الثقافي، لكن الرشاش سبق العذل، وبيت درنة الثقافي الذي كسب معركة قانونية ضد أمانة ثم مؤسسة الثقافة إبان النظام السابق في سعيها المُلح لضمه لتبعيتها، خسر معركته ضد الجماعة المسلحة التابعة للجماعة المقاتلة والتي استولت عليه بقوة السلاح. هذه الجماعات التي مازالت تعتبرها أطراف متنفذة في طرابلس (ثوارا) يحمون ثورة فبراير، كنموذج حي من نماذج تحريف وتشويه التاريخ وهو يكتب الآن أمام أعيننا. ضاع الأرشيف بعد أن حولوا البيت الثقافي مقرا لفرع من فروع “جمعية البلاغ” التي ترسل المقاتلين إلى سوريا، وهي الجمعية التي تم وضعها أخيرا من قبل الدول المقاطعة لقطر في قائمة الكيانات الإرهابية.
يطرح الفقيه مدخلا نظريا لما سوف يذهب إليه من قراءة لإشكاليات تدوين ورواية التاريخ الليبي الحديث، منطلقا من انتقائية الكتابة التاريخية التي تتوزع بين طبيعة الحقل المعرفي التاريخي وبين ذاتية المؤرخ والتي يصفها بــ “الحميدة” ، ومن الانتقائية “الخبيثة” التي يتحكم فيها مزاج السلطة القائمة ومصالحها ، أو كما يقول :”ولئن كان فعلا أن “الحق قد يقال مرتين/ فمرة يقوله السياف/ ومرة يقوله العراف” ، على حد تعبير الشاعر محمد عفيفي مطر.”
وللتدليل على هذا الازدواجية، يمر بمسحة سريعة على بعض الأمثلة في كتابة التاريخ العربي والتاريخ الإسلامي، لكن ما يعنيني في هذا السياق أحد النماذج الذي يستحضره من مدونتنا التاريخية “التي وقعت ـ بقصد أو بدونه ـ في حبائل المظهر السلبي للظاهرة” . وهو إذ يشير إلى مرحلة تعتيم النظام السابق كسلطة على تاريخ الحركة السنوسية ومن ثم إدخال تاريخنا السياسي المعاصر في دائرة الممنوع من التفكير به ، يذهب من جانب آخر إلى رصد هذا الحذر أو الحظر الذي لاحق مؤرخين أفرادا في ظل استجابتهم لضغوط المرحلة، السياسية والاجتماعية .
((يؤثر آخرون، وفي مقدمتهم المرحومان، طاهر الزاوي وخليفة التليسي، عدم الخوض في نازلة الحرب الأهلية، وبالذات في خلفيات اندلاعها وأسباب انتشارها في جبل نفوسة إبان الاحتلال الإيطالي، مراعاة منهما لحساسية كلا طرفي النزاع، وحرصا منهما على عدم نكئ الجراح القديمة، بما من شأنه أن يؤدي إلى نسيانها أو على الأقل تجاوزها باتجاه تقوية اللحمة الوطنية. يعبر عن هذه الوجهة تعبيراً واضحاً، ما أورده المؤرخ المرحوم طاهر أحمد الزاوي في كتابه المعرف “جهاد الأبطال في طرابلس الغرب” ، تحت عنوان فرعي هو “حرب الزنتان والبربر”، حيث يقول: “وقعت بين الزنتان والرجبان من ناحية، وجماعة البربر من ناحية، حروب طاحنة فقدت فيها طرابلس من أبنائها ما لا يعلم عدده إلا الله. وقعت الحرب الأولى بينهم سنة 1916 وخلفت من الضغائن بين الفريقين ما كان سبباً من أكبر الأسباب في الحرب الثانية التي دارت رحاها في سنتي 1920 ، 1921 . وكان لرؤساء الفريقين سبب مباشر في هذه الحرب أو تلك. ولهما أسباب ومقدمات ملتوية ومتداخلة ، تتصل بالطليان تارة، وبغيرهم أخرى. وقد يقتضينا ذكر هذه الأسباب الملتوية المتداخلة التعرض إلى أشياء لم يحن وقت التعرض إليها بعد. والاحتفاظ ببعض الحقائق إلى أجل قد تدعو إليه ظروف تحتم على الإنسان مراعاة شعور مواطنيه وخواطرهم ، لذلك رأيت أن اقتصر على ما لابد منه ، وأن أترك ما وراء ذلك إلى المستقبل)).
كما يورد الكاتب محمد الفقيه صالح سروداً تاريخية أخرى تتعلق بتأريخ حركة المقاومة الليبية للغزو الإيطالي من منظور جهوي إقليمي أو قبلي ضيق : ((يكتب المرحوم محمد مسعود فشيكة، مثلاً عن تاريخ هذه الحركة من زاوية المجاهد، رمضان السويحلي، في مصراتة، فيستنفر بعض أبناء المجاهد ، عبد النبي بالخير، من قبيلة ورفلة في بني وليد، المؤرخ التونسي، محمد المرزوقي، للكتابة عن بطولات المجاهد (بالخير) ومناقبه، ويكتب محمد سعيد القشاط عن حركة الجهاد في منطقة الجبل الغربي ، فيرى آخرون أنه يعلي من شأن قبيلته (الصيعان) على حساب قبائلهم، ولذا ينبري له مؤرخ أو كاتب من أبناء الزنتان هو، عبدالوهاب محمد الزنتاني، في أكثر من كتاب … ثم لا يلبث مؤخراً باحثان شابان من أبناء الرجبان هما “مصطفى امحمد الشعباني وفاضل الأمين فكيني، أن دخلا إلى ساحة السجال ضد سردية (القشاط) ، بنفس المنطلق (أو المقترب) القبلي الذي يصمانه به وينتقدانه عليه، حيث يشير الباحثان صراحة إلى “أننا ونحن ننتقد مثل هذه الكتابات (المقصود هنا الكتابات القبلية) قد انطلقنا أيضاً في إعداد هذا الكتاب من مشهد البعد القبلي، حيث أننا شعرنا بأن التهجم على القبيلة طال الثوابت والقيم، وبلغ الحد الذي أصبح لزاماً على أبنائها، بما يفرضه عليهم الانتماء القبلي من قيود وواجبات، ضرورة الإيفاء (هكذا) بحق القبيلة”. ما يشي بان الظاهرة ما تزال تفعل فعلها حتى لدى الأجيال الجديدة، وأن الوعي التاريخي لدى العديد من منتجي الثقافة في ليبيا ما يزال يدور في نطاق الأيديولوجيا القبلية والجهوية والإثنية ، ولم يتمكن بعد من الانتقال بالوعي الذاتي التاريخي من أسر الإيديولوجي إلى رحاب المعرفي، ومن مستوى الهوية الفرعية الصغرى إلى أفق الهوية الوطنية الأشمل)).
لابد من الإشارة إلى أن هذه الورقة قدمت كما سبق الذكر ضمن ندوة بيت درنة الثقافي العام 2010 مع غيرها من الأوراق الجريئة والعميقة، التي تطرق بعضها إلى تحريف السياسي للتاريخ الوطني قبل 1969 ، وهو ما عرض بيت درنة لكثير من الهجوم من قبل التيار الثورجي الذي ربما كان يقف قائده خلف هذه السجالات القبلية لكتابة التاريخ الوطني من أجل تسفيه هذا التاريخ، ومن مبدأ فرق تسد. أهديت هذه الندوة للمؤرخ عبدالكريم الوافي ضمن المهرجان الذي كان شخصيته الشرفية الجغرافي الهادي بولقمة، من باب مزج الجغرافيا بالتاريخ في انصهار وطني، ومن أجل حث النزعة العلمية لنقد المدونة التاريخية الليبية المشوهة والتي أسهمت في خلق وجدان وطني مشوه وقابل للتصدع في أية لحظة).
حقيقةً أن السكوت عن أجزاء مهمة من التاريخ بداعي الحساسية أو عدم “نكئ الجراح القديمة” هو الذي وضع هذه الحساسية في أفريز يحافظ عليها، لتستخرج كلما حان وقت الحاجة إليها، لأن الأجدى كان أن تطرح التفاصيل حتى من قبل المعنيين بها ليتم تجاوزها، وإلا ما الفائدة من مفهوم مثل الحقيقة والمصالحة، لأن التسامح لا يكون إلا بعد أن تكون الحقيقة ، أو كما يقول المثل الليبي “الخابية تكسر المحراث” أو “المشلوحة ما تعفنش” وهي أمثلة ناتجة عن تجارب طويلة في آليات المصالحة وتقال عادة قبل الدخول في أي حوار للمصالحة . ربما هذا ما جعل حرب العبيدات والبراعصة تتحول لدى الأجيال اللاحقة كفكاهة ونكتة، وما جعل الحرب المسماة “تجريدة حبيب” تتحول إلى ملحمة غنائية أقرب إلى الأوبرا الشعبية. وفي الحصيلة تميز الشرق الليبي بعدم، أو باضمحلال الحساسية القبلية والجهوية فيه مع الوقت عكس الغرب الليبي، ويُرجع البعض هذا الاختلاف، من زاوية أخرى، إلى وقوع الشرق لفترة طويلة تحت نفوذ الروح السنوسية الراعية لفض النزاعات القبلية، بينما الغرب وقتها استمر تحت نفوذ الدولة العثمانية المؤججة لهذه الحساسيات القبلية من أجل مصالحها، وهو التأجيج الذي استأنفته القوى الإيطالية الغازية.
أتمنى أن لا يتحول تاريخنا إلى ما يشبه كربلاء الشيعة، حيث الحفاظ على الجرح مفتوحاُ، والدماءِ التي سالت منذ عقود أو قرون طازجةً. هذا الوسواس الكربلائي المَرَضي الذي كان وراء إصدار المؤتمر الوطني سيء الذكر لقرار يسمح باجتياح مدينة بني وليد انتقاما لدم “حسين” أُريق قبل أكثر من قرن، ولينفلت بعدها شلال الدم والدموع حتى لحظتنا هذه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى