كتَـــــاب الموقع

محاولة

محاولة إزالة تاريخ الإبادة*

علي عبد اللطيف احميدة

ترجمة: عمر أبو القاسم الككلي

مر بحثي حول المعتقلات الجماعية الإيطالية عبر ثلاث مراحل: 1986- 1994، 1995- 2000، ثم 2000- 2015. ابتدأت المرحلة الأولى في 1986 عندما بحثت في المحفوظات الاستعمارية في إيطاليا وليبيا وأنا أعد رسالتي للدكتوراه حول الأصول الاجتماعية وسياسات المقاومة الليبية ضد الاستعمار، التي أنجزتها ودافعت عنها سنة 1990. افترضت في فترة مبكرة أن احتجاز ما يربو على 110000 ليبي، بين سنتي 1929 و 1934، كان موضوعا معروفا جيدا لدي الباحثين الغربيين والعرب، خصوصا وأن هذه الإبادة جرت قبل المحرقة وكانت أول عمل إبادة بعد الحرب العالمية الأولى. لاحظت أن أكثر الملفات أهمية حول الترحيل، وأسماء المحتجزين، ومعدلات الوفاة في المعتقلات، مفقودة في [مركز] المحفوظات القومية في إيطاليا.
المرحلة الثانية من بحثي بدأت السنة التالية لنشري رسالتي للدكتوراه سنة 1994 وحررت كتابا حول الانتقادات المختلفة التي وجهت ضد البحث الأكاديمي الوطني والاستعماري في دراسات شمال أفريقيا. شرعت في بحثي حول المعتقلات الجماعية الإيطالية بانتباه خاص للمصادر الأولية المتمثلة في الوثائق وغيرها من المواد، وقبل كل شيء، المصادر العربية، شفهية ومكتوبة، التي تركها أولئك المحتجزون في المعتقلات في ليبيا، وأولئك الذين لجأوا إلى المنفى. ولقد ساعدتني خبرتي بمناهج البحث الميداني الآنثروبولوجي، بما في ذلك الإثنوغرافي، في تفحص المصادر الشفهية والمكتوبة.
المرحلة الثالثة من البحث ركزت على الإبادة والمواد المتعلقة بالحالة الليبية، بما في ذلك خطة لإجراء مقابلات [مع الناجين] وزيارة مواقع خمسة معتقلات عقابية بين سنتي 2000 و 2015 .

النتيجة المبكرة لتمعني في المعتقلات الجماعية الإيطالية والإبادة في ليبيا نشرت كفصل في كتابي “الأصوات المهمشة: الخضوع والعصيان في ليبيا أثناء الاستعمار وبعده”** سنة 2005. ولقد أنفقت السنوات العشر التالية في مواصلة دراستي لهذا الموضوع، بما في ذلك تحديد المصادر الأولية وتاريخ الإبادة والفاشية المقارن، وفوق كل شيء، الاستماع إلى التاريخ الشفهي ومراجعة الوثائق والأشعار والأدلة المادية المتروكة من قبل الناجين، وأيضا ردود الفعل إزاء الإبادة داخل ليبيا منذ سنة 1934. وقد تضمن ذلك تحليلات للملكية 1951- 1969، ثم الجمهورية بين 1977 و 2011 وانتفاضة 17 فبراير 2011، وردة فعل الكتاب والفنانين والأجيال الشابة من طلبة سبع جامعات ليبية.

بماذا نفسر التصرف الإيطالي الرسمي إزاء المحفوظات [الخاصة بأعمال الإبادة في ليبيا]؟. هل هذه حالة شاذة، أم أنها تنضوي ضمن نمط سائد لدى دول استعمارية أخرى.

سنة 2015، أبانت كارولاين إلكنس في دراستها عن [عمليات] قمع [ثوار] ماو ماو في كينيا كيف أن البريطانيين أتلفوا المحفوظات المتعلقة بهذه المرحلة الوحشية، ولقد أمضت عشر سنوات كي تكتشف عملية الإخفاء هذه. حالتها وحالتي ليستا استثناء، فبما أن هذا هو نفس وضع محفوظات الإبادات الاستعمارية البريطانية والبلجيكية والفرنسية، فيبدو أن الأمر يتعلق بنمط شائع1. وباختصار، فإن المحفوظات الاستعمارية تنتج مواقع “معرفة استعمارية” وبنية آيديولوجيتها الخاصة. الآن يمكننا الحصول من المحفوظات الإيطالية على أسماء القبائل المعتقلة وملفات الجنرال رودولفوا غراتسياني الذي كان مسؤولا عن الجيش الإيطالي [في ليبيا] وعمليات الاعتقال في برقة.

وأيا كان الأمر، فإن الملفات الحساسة الخاصة بالمعتقلات والموت الجماعي وأسماء الضحايا مفقودة. والأسوأ من ذلك أنه كذب في كتبه وملفاته حول العدد الحقيقي للمعتقلين، أنه نظر إلى عملية الاعتقال برمتها على أنها عمليات ترويض discipline لهؤلاء البدو “الهمج” وتحضيرهم2.

اتصلت، خريف 2005، بمؤرخين إيطاليين متقدمين كسرا الصمت الإيطالي الرسمي والصمت الأكاديمي حيال الاعتقال الجماعي الاستعماري، وهما جورجيو روكات وآنجلو دل بوكا، طالبا مساعدتهما بخصوص المعتقلات في المحفوظات الإيطالية. ولقد أكدا استنتاجي وأفاداني بأنه بعد عقود من البحث وجدا أن ملفات محفوظات الدولة الإيطالية عن المعتقلات جرى التلاعب بها وأن بعض الملفات الحساسة عن المعتقلات “خُبِّئت” أو أبعدت من قبل ما أسمياه “التكتل الاستعماري” الذي يشير إلى المسؤولين الفاشيين والاستعماريين السابقين الذين تولوا مسؤولية “المحفوظات الوطنية الإيطالية” على أثر سقوط النظام الفاشي سنة 1945.

ولقد خلق هؤلاء الإداريون الفاشيون والاستعماريون السابقون عراقيل وضيقوا إمكانية الوصول إلى الجرائم الاستعمارية الحساسة، على وجه الخصوص، المعتقلات الجماعية، التي ربما كانت واحدة من أسوأ جرائم الإبادة في تاريخ الاستعمار الإيطالي الفاشي وتاريخ الاستعمار في أفريقيا والشرق الأوسط، باستثناء الكونغو وناميبيا والجزائر.

وجهة النظر النقدية هذه بشأن إزالة الدليل من المحفوظات الاستعمارية أو إسكاتها جرى التأكيد عليها من قبل مؤرخ ليبي ودبلوماسي تلقى تعليما إيطاليا، وهو وهبي البوري، الذي أجريت معه لقاء في بنغازي قبل وفاته سنة 2011. أخبرني الدكتور وهبي البوري لما قابلته سنة 2008 أنه أتيحت له فرصة محدودة للوصول إلى المحفوظات الإيطالية. لقد كان باحثا ذا تعليم إيطالي وعمل وزيرا للخارجية في دولة الاستقلال الليبية بعد 1951.

أعتقد أنه بامتلاكه هذه المؤهلات غير القابلة للطعن يمكنه أن يعطيني بعض الإرشادات ويجيب على أسئلتي. حين سألته عن ملفات المعتقلات أجاب بأن تلك الملفات مفقودة. نعلم أنه كانت ثمة سجلات في المعتقلات، ومواقع وأسماء قبائل المحتجزين مثلما كشفت لنا عن ذلك أعمال جورجيو روكات وآنجلو دل بوكا وغوستافو أوتولينغي. أكثر من ذلك، تُظهر كتب الجنرال غراتسياني وأوراقه مواد مماثلة.

لا توجد أسماء المحتجزين ولا أعدادهم، ولا أعداد الموتى أو أنواع الأمراض أو الترحيلات. لم يجر التقليل من أعداد المحتجزين والموتى، فقط، وإنما نظر من قبل الجنرالات الفاشيين إلى مجمل الإبادة في المعتقلات على أنها مجهود إيجابي لتحديث البدو “الهمج” وتوطينهم.

لعلنا سنعثر على وثائق استعمارية مفقودة داخل إيطاليا وخارجها. تنظيم المحفوظات الاستعمارية وترقيمها ليس محايدا مبنيا على سجلات تثبت الوقائع المباشرة. في الواقع إن ما نجده هو تعبير عن نظام استعماري، آيديولوجيا فاشية وسياسة عنصرية تستهدف محو خطاياها. وباختصار، هذه محاولة جلية لإزالة تاريخ الإبادة.

خريف 2012، تمكنت من تخطي الحاجز في إيطاليا عندما أتيحت لي فرصة الوصول إلى أوراق وملفات الجنرال رودولفو غراتسياني في “مركز محفوظات الدولة Archivio Centrale dello Stato (ACS)”. الملفات ذات أهمية بالنسبة إلى السياسة الإيطالية الرسمية في تلك الفترة وآراء الاسترتيجيا العسكرية، والرسائل واليوميات، والرسائل العربية الصادرة من قادة المقاومة، والجنود الاستعماريين والمتواطئين. تولى غراتسياني قيادة الجيش الفاشي خلال مدة الاعتقال، ولذا فهو مسؤول عن إبادة 60000 شخص من مجموع 110000 ليبي احتجزوا في ما بين 1929 و 1934.

هذا الاكتشاف كان ذا مغزى بالنسبة إلى بحثي، ليس لكونه فقط يكشف حقيقة ما حدث، ولكن لتبريره عمليات القتل الجماعي والدفاع عنها. وهو يسكت عن أعداد وأسماء المحتجزين الذين ماتوا.

الأوراق بالغة الأهمية، رغم أنها اعتذارية ومماثلة لما رواه في كتابه “برقة المهدأة” (1932). كانت روايته دفاعية قلل فيها عدد المحتجزين إلى 80000 فقط، وأنكر جريمة سياسة القتل المنظم لآلاف المحتجزين الليبيين. وبدلا من ذلك دافع غراتسياني “سفاح ليبيا” عن اعتقال كل سكان برقة باعتباره فعل “تحضير” وعقابا “مشروعا legal” للأهالي البدو الخطرين الجامحين.

تقدم الملفات رسومات وصورا ووثائق عربية وإيطالية جديدة، ورسائل لليبيين من الجنود العاملين مع الاستعمار والأفراد المتواطئين معه. تزودنا ملفات الجنرال غراتسياني بدليل مهم يتعلق بتبرير الاستعمار الإيطالي العسكري الفاشي، العنصري، للإبادة.

* العنوان الأصلي للمقتطف: Missing Colonial archival files and fieldwork research الملفات الاستعمارية المفقودة والبحث الميداني.
** العنوان الأصلي للكتاب: Forgotten Voices: Power an Agency in Colonial and Postcolonial Libya وقد صدر بترجمتنا أعلاه سنة 2009 عن مركز دراسات الوحدة العربية- بيروت.
1- حول التصنيف الاستعماري للمحفوظات والتلاعب بها انظر: كارولاين إلكنس Caroline Elkins، البحث في ما وراء ماو ماو: انتهاك المحفوظات في حقبة تصفية الاستعمار Looking beyond Mau Mau: Archiving Violence in the Era of Decolonialization,” American Historical Review, (June 2015) 852- 868 . وكذلك كتابها النقدي الأصيل “جرد الحساب الإمبريالي Imperial Reckoning, (new York: Henry Holt an Company, 2005) xi- xvi . وانظر أيضا: توم لوسون Tom Lawson : الرجل الأخير The Last Man (New York: I.B. Tauris, 2014).
2- للاطلاع على آراء غراتسياني العنصرية ولغته انظر: ديفد آلكنسون David Alkinson، “احتواء المقاومة، المخاوف الإيطالية ومكان البدو في مستعمرة سيرينايكا” في تشارلوت، روس ولوردانا بولتسي، محرران : الجسدانية: الأجساد في إيطاليا بعد التوحيدEmbodied Risistence, Italian Anxieties, and the Place of the Nomad in Colonial Cyrenaica” in Charlotte, Ross and Loredana Polezzi, eds, In Coropore: Bodies in Post-Unification Italy” (Farleigh: Dickinson University Press), 56- 79. وانظر أيضا: آنجيلو دل بوكا Angelo Del Boca، الأساطير وإنكار أعمال القمع، وإخقلق الاستعمار الإيطالي The Myths, Suppressions, Denials and Defaults of Italian Colonialism, in Patrizia Palumbo, ed., مكان تحت الشمسA place Under the Sun (Berkeley: University of California Press, 2003) 17- 36.
وانظر كذلك: نيكولا لابانكا Nicola La Banca، الإحراج الليبي، التاريخ، الذاكرة ، والسياسة في إيطاليا المعاصرة. The Embarrassment of Libya, History, Memory, and Politics in Contemporary Italy. California Italian Studies, 1:1 (2010), 1- 19.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى