اخترنا لككتَـــــاب الموقع

متى يرتفع الصوت

عمر الككلي

تنطوي الأصوات على جانب دلائلي (سيميائي)، أي معرفي. فإذا افترضنا أن ثمة شخصا عاجزا مستلقيا على سريره في غرفة سيكون بإمكانه تمييز صوت المطر أو الريح أو الرعد، وبذلك تتكون لديه درجة من المعرفة بالطقس. كما إنه يميز أصوات الحيوانات، كالقطط والكلاب والدجاج والعصافير، وأصوات البشر (رجالا ونساء وأطفالا) ويستخرج منها دلالات سلوكية وحمولات نفسية ويستأنس بها.

إذ يمكن، مثلا، تمييز نباح الكلب إذا كان غاضبا وخائفا، أو عوائه وهو يرحب بصاحبه، أو صاحبته، عند جلب الطعام.

في قصتي “القفزة” التي تصف حالة فرسين (مهر ومهرة) حرصت على التمييز بين “الصهيل” و “الحمحمة”، حيث يعبر الصوت الأول عن حالة التوتر والغضب ويعبر الصوت الثاني عن عاطفة الود والاستئناس، أو الحاجة إلى الأكل والشرب.

وفي كتابي “سجنيات” تطرقت إلى دلالة الأصوات في نصين. ورد في النص الأول:

“وتأتي الأصوات دافئة ومترعة بالحياة: صوت امرأة تنادي جارتها، أو تتفقد طفلها اللاعب في الشارع، صخب الأطفال وهم يلعبون وأزيز السيارات العابرة، مواء القطط و نباح الكلاب وزقزقة العصافير في الصباح الباكر وقبيل حلول الظلام وصياح الديكة، في أماكن بعيدة، تدفيء الفجر بأنفاسها وبهجة صياحها”.

وفي النص الثاني كتبت:

“في الهزيع الأخير من الليل، الذي تهز سكونه ريح غير قوية، سمعت صوت السيارة يعلو مقتربا، وعند أعلى نقطة في قوس الصوت، سمعت ارتطام علبة معدنية فارغة بإسفلت الطريق، ومع نزول قوس صوت السيارة، سمعت صوت العلبة وهي تتدحرج، مسحوبة بجاذبية حركة السيارة و (ربما) بانحدار وسلاسة الطريق، ومدفوعة بقوة الريح، في مسار مستقيم، في البداية، ثم تنحرف على إحدى حاشيتيها، لتلف حول نفسها (لا يمكنني الجزم بكونها دارت في اتجاهي أو في الاتجاه الآخر)، ثم تستقر”.

عندما أعد لنفسي شايا كنت أتنبه إلى صوت الماء وهو يسخن. مع بوادر الغليان يكون الصوت عاليا. أما عند الغليان الكامل ينخفض الصوت ويتخذ نغمة متجانسة مستقرة. فأذهب وأضع عيدان الشاي في “البراد”.

أظن أنه برناردشو الذي قال: “العربات الفارغة أكثر ضجيجا، وكذلك عقول البشر!”. فالشخص الذي يكون عقله فارغا يعتمد على علو الصوت والإرهاب الفكري المستند على المقدس والمعتقدات السائدة في المجتمع، ولا يناقش الموضوع المطروح نقاشا فكريا موضوعيا، لأنه سيهزم لا محالة.

وبمناسبة العربات الفارغة، أو قليلة الحمولة، كانت إدارة السجن، عندما كنا سجناء، تتبع نظاما في توزيع الطعام بحيث يبدأ التوزيع كل مرة من قسم. فكان ثمة من بيننا من يعرفون، عند سماعهم صوت عربة الطعام، هل ابتدأت من قسمنا أم مرت بأقسام أخرى، لأن صوتها، لو مرت بأقسام أخرى، سيكون أكثر علوا (ضجيجا) بسبب نقص حمولتها.

زر الذهاب إلى الأعلى