كتَـــــاب الموقع

مباهج البرتقال ومكابداته

عمر أبو القاسم الككلي

منذ طفولتي الباكرة وجدتني أحب البرتقال. في البداية لم يكن البرتقال يُكثر من القدوم إلينا، لكن شيئا فشيئا أصبحت زياراته تتواتر، إلى أن سكنا، لما أن كان عمري حوالي تسع سنوات، في مزرعة برتقال تملكها امرأة إيطالية ويرعاها أبي. كانت فيها ضروب متنوعة من البرتقال فتولدت بيننا علاقة وطيدة، إذ كنت أرويه وأشارك في جمعه، والأهم من ذلك أنني كنت في موسم نضجه أتخير شجرة من أحد الأنواع وأتناول منه حد الشبع.

وحتى بعدما تركنا المزرعة كان البرتقال متوفرا بقدر معقول، إذ كان أبي وأخي الكبير يشتغلان بمزارع برتقال ويجلبان لنا كميات منه.

اتسعت دائرة تعلقي بالبرتقال من طعمه ورائحته (سواء رائحة قشوره وعصارته، أو رائحة أزهاره) إلى الشغف بلونه في درجاته المختلفة.

منذ نهايا المرحلة الإعدادية تقريبا، صرت “أُبَرْقِلُ”، قدر الإمكان، كل ما يتعلق بي من ملابس ومقتنيات، حتى صار أصدقائي يطلقون عليَّ “البرتقالي” أو “الرجل البرتقالي”.

أذكر أن الصديق المرهف محمد الزنتاني حمل معه في إحدى زياراته لي قطعة مستطيلة بحجم منشف صغير، لا أعرف خامتها ولكنها مرنة، ذات لون برتقالي مبتهج، قال لي:

– وانى جاي لقيتها طايحة، حبيت نجيبهالك!.

وقد فرحت بها فعلا. وما زلت أحتفظ بها بعد ما يزيد على أربعة عقود.

كنت أصف اللون البرتقالي بأنه: عميق ومسالم ومحايد. وأيا كان غموض هذا الوصف فهو يعبر عن إحساسي الفعلي به. وتبدأ قصة لي عنوانها “تلوين” كتبت بداية سنة 1976 بالجملة التالية: ” يقبع البحر، بلونه البرتقالي، عميقاً محايداً مسالماً متلهيا مع نفسه”. وربما من صورة التلهي مع النفس هذه اشتق صديقي العزيز محمد الزنتاني في قصيدته المهداة إليَّ التي عنوانها “عن الشجن، والبرتقال” صورته الرائعة:

“البرتقال،

لاينتابه الغرور

البرتقال،

مكتفٍ بذاته على الدوام!”.

وفي نص شعري لي كتب أواسط السبعينيات وصفت وجهي أنه يقتحم وحدة الحبيبة التي هجرتني نهائيا “مشعا كاللون البرتقالي،”.

*

عندما لفقت لنا “اللجان الثورية” نهاية سنة 1978 تهمة بنائنا تنظيما ماركسيا كان أبرز دليل أوردتْه بخصوصي أن ملابسي حمراء!. يعنون برتقالية. وهذا الدليل ينطوي على عمى ألوان، وغياب العقل، وانتفاء الحياء، وانعدام العدالة.

*

أريد أن أعود إلى قصيدة صديقي محمد الزنتاني لأختم هذه الخاطرة بخاتمة قصيدته التي تقول:

” لآخر الليل،

صمت و جلال،

ولي وحدي،

هذا الشرود العظيم!

. .

تقول شجرة البرتقال،

وهي تتنهّد وتلتقط أنفاسها،

قبل الشروق،

بقليل!”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى