اهم الاخبارمقالات مختارة

ما الذي يحـدث حـقــًـا؟

محمد المفتي

قبل أسابيع حضرت أحد لقاءات المبعوث الأممي الدكتور سلامة في بنغازي، وكان واثـقـا بجرعة من الحذر الدبلوماسي. وها هو يعـود إلى المدينة، ربما مـحـمـلا بقدر من الإجـهــاد تنمي عـنه قسـمات وجـهـه وصـمـتـه المتزايد. ولو إن الأهـداف الثلاثة التي أعلنـهـا ما تزال مطمـحـه الرسمي.

المـشـكلة أن ليـبــيا، بعد عـشرات من الحوارات والمداولات في شتى المدن والعواصم خارج الوطن، وشتى الصيغ والبيانات، ما تزال بدون دستور، بدون استفتاء على الدستور، بثلاث حكومات، وبرلمانين، وشتى المؤسـسـات المنقـســمة والمشلولة.
الأغـلـبــية الصــامـتـة

والمـفـارقـة أن الساسة والمحلـلــين دوليا ومحليا، يتجـاهـلـون حـقـيـقة جـوهـرية وهي أن خمسة وتسعين بالمائة ( 95% ) من الليبيين متـعـايشين في ســلام دون حساسيات أو تعصب جهوي أو قبلي أو مذهبي، ودون اشتباكات مســلـحـة. فما مصدر الارتباك والتـوتـر الذي نعيشه؟ ألا يحق لنا أن نبحـث عن تفسيرات جديدة ؟ وأن نواجـه أنفــسنا بشجاعة ؟
مثل هذه المساءلة تقودنا إلى طرح بعض الإجابات الممكنة:

بالتأكيــد، التشكيلات المسلحة (المليشيات) جزء أساسي من أزمة النـســيج السلطوي. لكن أحـدا لم يبذل جـهـدا في محاورتـهـا، وتـحـاورهـا علـنـًـا.

ولم يبذل المجتمع الدولي جهدا في فهم أزمتنا ولا فهم المجتمع الليبي. بل طبقوا علينا نماذج مستعارة من مجتمعات أخرى، كما في إصرارهم المتكرر على القبلية ودعواتهم “لمشايخ وأعيان” لا تأثير حقيقي لهم على أرض الواقع. طبعا المجتمع الدولي مشغول بأزمات عالمية أخرى، وفي ليبيا أساسا بالهجرة الأفريقية العابرة للفضاء الليبي، وتـسـرب الإرهــاب، وبتقاسم ثروة النفط وخاصة إيطاليا القريبة من مصادر الغاز والنفط لدينا، وتركيا باسـتثماراتها الضخمة في ليبيا.
غـيــاب الـقـيــادة

ودون رغـبة في التشويه أو الطـعـن أو التـخـوين، لا أكـتـم قـنـاعـتي بأن ســاســتـنا الذين يتصــدرون المشـهـد، يشتركون في خاصية أساسية ألا وهي الانتماء الضيق، معـزولين حتى عـن من يدعـون تمثيلهم ! فهم لم ينجحــوا في تجـســيد صورة القـيــادة الوطنية التي تـتـقــدم مسيرة شـعبـها وتـلـهــمه برؤى نبيلة تـنـشر التـسامح وتـتـرفـع عـن التعصب والأحـقــاد، وتمنحهم آملا في الاستقرار والازدهـار.. فلا أحد منهم مثلا زار قـرى ومدنا ليبية ليقترب من مشاكل وهموم أهـلـها، ولا حـاول أحــدهم أن يمـد جسـورا من المحبة والتسامح بين أرجـاء الوطـن.

فالرئاسي ولـد في ظـروف ملتبسـة، أعلـنــه أو نصّبه السيد ليون وكان وصوله دراميا على ظهر بارجة إيطالية واســتمـراره مأســاويا، أســير قاعـدة بوســتة، ليستقبل وزراء الدول وتصريحاتهم المؤيدة، ويخرج في رحلات منـمـقة بالسـجاد البروتوكـولي الأحـمـر، والصور التلـفـزيونـية.

وكذلك ولد مجلس الدولة في ما يشـبه الانـقــلاب، ولذلك فـقـد هـويتـه الليبية ليبقي متحدثا باسم تكتل أو تيار وباسم مدينة، عاجزا حتى عـن إبعاد مصراته عـن حرب بنغازي أو ترك مهجـري تاورغاء يعـودوا إلى بلدتـهـم .. وأخشى أن ما يحدث في قـــرارة القطف ســتكون له عـواقـب وخيمة بعد بضع سـنوات. وســبـق أن كتبت قـبل حوالي عـقـد عن تجــار مصراته الذين بانتشارهم في كل أرجـاء ليبيا، لعبوا دورا أساسيا في توحيد البــلاد خلال القرنين الماضـيين، وأراهـا اليوم تتـقـهـقـر إلى سـلوكيات الـرعـونـة والأنانــية. وأذكـر أن الدكتور السويحلي اعترض حين حـذرت قـبـل سـنوات، من الرعـونـة، في ورقة لي بنــدوة بـفـنـدق أوزو عـام 2012.

وبالمثل نرى البرلمان مكبــلا بحســابات النصاب والتصويت، متشـبثا بالمماحـكات القانـونية، ولم ينـجـح في رسـم أو إيصال صورة إيجابية أو ذات فعالية، ويبقى بين طـبــرق والقـبــة أقـرب إلى ” المـيـعــاد” ، بعـيــدا جـدا عن زعامة الوطن.
ما العمل إذن؟

• علـيــنا بالعـودة إلى الأســس، فـنـوسـع دائرة الحـوارات بإشــراك أسـماء ووجـوه جـديدة، والذي أضحكني مؤخرا عند تأمل قائمة “الأعيان” في ملتقى جنيف الأخير أن المشاركين هم نفس الأسماء المسئولة عن أزمتنا المستحكمة. ثم ألا يوجد في قبيلة كذا أو كذا إلا نفس الشخص؟

• وعليـنـا أن نتـيـح الفرصة لنمـط آخـر من السياسات. وهـذا يكـون أولا بتـفـعيل نـظــام المـحـافـظــات (بعد تعديله) وتـقـوم لجـنـة مشتركة تعينـها الأجسام الثــلاثة (الرئاسي والمؤتمر والبرلمان) باخـتـيــار المحافـظــين، وتخصص من الريع النفطي ميزانيات للمحافظـات وفق نـسـب متوازنـة. مثل هـذا الإجــراء البسيط، من شــأنه أن يحصر الصراعات الحالية في مناطـقــها، ويضع المسلحين في مواجـهـة أهلهم في مواطنهم، وبالتالي ســيـساعد على تهـدئة النـفـوس وعـودة الاسـتقرار وســطوة القانـون.

وأخيرا، أتمنى للسيد المبعوث الأممي زيارة طيبة، ولتمض سـفينة الأمـم المتـحـدة في مسارها، لتعـدل، وتجمع، وتنظم انتخـابات، رغـم أنني على قـنـاعـة أن هـذه البرامـج الفـخـمـة ليست أكثر من أماني، وأن السـفـينة ســتـصطدم بصـخـور الواقــع الليبي، كما حدث مع ربابنـة سـابقـين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى