خاص 218مقالات مختارة

ليبيا … 2019 (بلا عنوان)

سالم الهمالي

(٤)

” أمي كأمهاتكم ليست ككل الأمهات” …

حطت بنا الطائرة بسلام على أرض مطار تمنهنت، حيث كنز الكنوز وأثمن ما عندي على هذه البسيطة أمي الغالية (حفظها الله)، حملت ووضعت وأرضعت وربّت وسهرت وانتظرت هذه اللحظة التي لا يماثلها شيء آخر في الدنيا الفانية.

هناك الكثير مما سأكتب عن تمنهنت القديمة، بيوتها وشوارعها ومقتنيات وعادت اَهلها حتى مقابرها وأضرحتها، لكن ما وجدت أكثر قيمة عندي من حضن أمي وحنانها ومنها البداية. قيمة الأم عظيمة رسختها آيات كريمة فيها أوامر ونواهٍ وأحاديث نبوية شريفة فيها نصيحة وهداية، لا يعرف تمام درجتها إلا من فقد أمه!

عاشت حياة القرية بكل تفاصيلها، حلبت الضأن والماعز ومخضت الشكوى ورحت القمح والشعير ونسجت الجرود والبطاطين على المسدة وحمت الخبز في التنور وجمعت الحطب ورفعت الماء على رأسها، تصحو قبل الجميع وتغفو بعد أن ينام كل من في البيت صيفا أو شتاًء. علمتنا الصبر والعمل والصدق والمثابرة… عطاء دائم بلا حدود

وصلت تمنهنت ووجدتها بلا كهرباء لأكثر من ثلاثة أيام وانقطاع كامل للماء في البيوت وحرارة تفوق الأربعين درجة، وأناسا شافقين على أهلهم من العطش بعد أن يبست مزارعهم وفسد كل ما اختزنوه في ثلاجاتهم، ضنك وشقاء وعناء لم أرَ له مثيلا في حياتي. وجوه كالحة وعيون يتطاير منها الشرر إلا وجه أمي الذي ظل كما عهدته عليه هالة من الفرح مخضبة بدموع تذرفها عند القدوم والمغادرة ككل مرة، تزداد حرقتها مع الأيام. لم أسمع منها شكوى كما سمعت الكثير من الآخرين .. تعيد وتكرر: ” يفرج الله علينا يا وليدي”.

يا ويلهم من عبثوا بكل هؤلاء الشيوخ والعجائز وقطعوا عليهم إمدادات البنزين والكهرباء إمعانا في إذلالهم، ألا يعلمون أن الله معهم ويستمع إلى ما يلهجون به من دعاء العطشى؟!

نعم، تنقطع الكهرباء في كل ليبيا عدا بعض الأماكن في المدن التي تمتلك السلاح والقوة وتمتنع عن مشاركة إخوانهم الليبيين في طرح الأحمال، لكن التأثير الأكبر والأشد قسوة هو ما يحدث في الجنوب الليبي، فارتفاع درجة الحرارة وقطع إمدادات المحروقات أحدث كوارث مهولة لا تنقلها شاشات الفضائيات ولا تتداولها جلسات الحكومات المنشغلة بقطار الإنفاق … وَيَا للمسخرة ؟!

أهل فزان تعلقت أرواحهم بأسلاك الكهرباء، وانقطاع تغذيتها يعني الموت للإنسان والحيوان والنبات.

استمعت إلى رواية أحدهم، الذي ناله الإذلال عند إحدى البوابات الشمالية، أمروه بفتح صندوق سيارته وإخراج قنينة فيها سبعة لترات من البنزين حملها معه بالرغم من خطورتها عليه وأهله لأن الطريق إلى فزان محرومة من إمدادات البنزين، تناولها أحدهم وقذف بها على طول ذراعه… أهكذا يعامل الناس الأبرياء في وطنهم؟!

المعاناة في الجنوب ليست نكتة ولا كذبة بل حقيقة جلية وكارثة إنسانية بكل ألوانها، تحتاج الى وقفة جادة من كل الصالحين والصادقين في ليبيا…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى