مقالات مختارة

ليبيا: تقاسم النفوذ وتقسيم الجغرافيا

أمين بن مسعود

ما يحصل بين باريس وروما من تلاسن واضح وصريح حول ليبيا وصل إلى حد ادعاء الملكية والأولوية عليها، يكشف وضعية التدهور العميق الذي ضرب الدولة الليبية، ما حوَّلَها في أعين الجار الأوروبي من لاعب إلى ملعب، ومن فاعل إقليمي في السياقات المتوسطية والإفريقية إلى مجال فعل وتأثير بين الفاعلين الأوروبيين.

حدة المكاسرة بين روما وباريس وصلت في الفترة الأخيرة حدا غير مسبوق، فالتلاسن بين الطرفين خلال اجتماع الناتو في بروكسيل نقلته المؤسسات الإعلامية لكلا البلدين، فيما التصريح الذي أدلى به رئيس الوزراء الإيطالي جيوسيبي كونتي السبت للتلفزيون الإيطالي يعتبر كسرا للخطاب الدبلوماسي بين الدولتين، فلأول مرة تقريبا تعلن روما موقفها الرافض بكل صراحة لخارطة الطريق الفرنسية في ليبيا، معتبرة أن الأخيرة ليست تابعة لفرنسا كما يتصور قادة الإيليزيه الجدد.

وهو موقف سرعان ما ترجمته السفارة الإيطالية في طرابلس بالإعلان عن أن خارطة الطريق الفرنسية ليست أفضل ما يمكن الوصول إليه في ليبيا، رافضة أن يكون الحل الليبي رهين مجموعة من الأفراد والسياسيين الليبيين.

من الواضح إذن أن العلاقات بين فرنسا وإيطاليا، ولا سيما عقب وصول التحالف الشعبوي والقومي المتطرف إلى سدة الحكم في روما، تمر بواحدة من أقصى فتراتها وأصعب مراحلها.

فلا لغة الوساطة والدبلوماسية التي اعتمدها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في بواكير المحنة يبدو أنها قادرة على حلحلتها، ولا الاتحاد الأوروبي ما زال يمثل الخيمة الكبرى والمظلة الواسعة لتفكيك المشاكل البينية، خاصة وأن دولة مثل ألمانيا تُعدُّ لبنة التأصيل في النادي الأوروبي تمر بأزمة حكم كبيرة قد تدفع نحو انتخابات مبكرة.

عديدة هي الإشكاليات التي أوصلت العلاقة بين روما باريس إلى هذا المنعرج الصعب، لعل أهمها إشكالية الهجرة غير الشرعية والتي اختلفت حولها المضامين والمنهجيات والمقاربات، قبل أن تتفتق قريحة قادة الاتحاد الأوروبي بحل غير قابل للتحقيق كامن في الجغرافيا المحايدة بين أوروبا وأفريقيا على شاكلة غوانتنامو، وهو اقتراح رفضته العديد من الدول الأوروبية المقاطعة للاجتماع أو الحاضرة بالغياب، قبل أن تلفظه دول شمال أفريقيا.

كما تضاف إلى هذا الإشكال، معضلة ثانية أساسية متمثلة في المكاسرة بين روما وباريس على تقاسم النفوذ في الملف الليبي، سواء من حيث الثروات الطبيعية وأساسا النفط الذي تتصارع حول كعكته كبرى الشركات النفطية، إيني من إيطاليا، وتوتال من فرنسا، أو المحافظة على خرائط النفوذ القديمة الجديدة حيث لا تزال كل دولة تؤمن على رصيدها الرمزي وقوتها الناعمة والمباشرة أيضا، في أكثر من مفصل في الجغرافيا الليبية.

ويبدو أن تقاسم النفوذ الذي صار واقعا متكرسا من فرط القوة والواقع والتاريخ، بات راسما لجغرافيات جديدة هي بطبيعة الحال ليست جغرافيات التقسيم التي تثير حفيظة الليبيين ومعهم كل الجوار الأفريقي والعربي، ولكنها جغرافيات التشظي الناعم على وقع تقاسم النفوذ بين إيطاليا وفرنسا بالتحديد.

فلا تزال إيطاليا تحافظ على تموقع، بمقتضى التاريخ والقرب الجغرافي، في الغرب الليبي كما لا يزال دعمها للمجلس الرئاسي ولرئيسه فايز السراج ماثلا بقوة، فيما تسعى فرنسا إلى تأصيل وجودها الاقتصادي العسكري غير المباشر في بعض محافظات الجنوب، حيث التقاطع والتشارك بين وجودها في الجنوب الليبي وفي منطقة الساحل الأفريقي، فيما موقفها السياسي من قائد الجيش الوطني الليبي خليفة حفتر متأرجح بين التأييد المطلق في بعض الأحيان، والدعم المضمر في أحيان أخرى.

المفارقة أنه كلما فقد الليبيون ومن ورائهم الجوار، المبادرة في تأصيل مقترحات الحل الداخلي والحوار الوطني، كلما ازداد النفوذ ترسخا واستحالت القوة الناعمة والدور من وراء الوكلاء إلى تدخل مباشر وصريح، وباتت لكل دولة أجنبية حصتها من الجغرافيا والثروات وحقها في رفع الفيتو وإبداء الرفض لأي مشروع تسوية لا يضمن نصيبها من الكعكة.

وبهذا المقتضى، تصبح الحلول الوطنية مشاريع لإرضاء المتدخلين الإقليميين والدوليين ولتأمين حظوظهم من أرض ليبيا، وعوضا عن أن يكون الحوار والتسوية بين فرقاء الداخل يستحيل طبخة تقاسم نفوذ بين فرقاء الخارج.

لن نجانب الصواب في هذا السياق، إن وضعنا الإجراء الأميركي بتعيين دبلوماسية أميركية، هي ستيفان ويليامز، نائبة للمبعوث الدولي غسان سلامة في إطار انضمام واشنطن إلى كوكبة المتقاسمين التاريخيين لليبيا، ولئن اختارت في وقت سابق مبدأ النكوص في الملف الليبي لعدة اعتبارات فهي اليوم تجتبي مبدأ الانخراط لا سيما وأن آفاق التسوية غائبة والمصالحة لا تزال بعيدة المدى.

وما الحراك الدبلوماسي النشط للسفارة الإيطالية في طرابلس، إلا تكريس لمبدأ تقاسم النفوذ في شقه الدبلوماسي، بين فرنسا المتهمة بتوظيف المبعوث الأممي غسان سلامة لتنفيذ أجندتها ولإعادة تموقعها ودورها في المشهدية الليبية، وبين نائبته الأميركية التي تجسد العودة الأميركية للملف الليبي.

المفارقة أن كل هذا الأمر يحصل على مرأى دول الجوار، تونس والجزائر ومصر، وكلها دول لا تزال ترفع شعار السيادة الليبية ووحدة الأراضي وعودة الثروات إلى الشعب الليبي، وهي عناوين صحيحة ومنطقية ولكنها تتحول إلى شعارات رفع عتب، طالما أنها لم تقترن بسياسات حقيقية واستراتيجيات كبرى لكف التدخل الناعم والمباشر عن الملف الليبي ولافتكاك زمام المبادرة من المحتلين والمستعمرين القدامى والجدد على حد السواء.

المصدر
alarab

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى