اخترنا لكمقالات مختارة

ليبيا .. بحث حول هذه الكلمة

أ‌. محمد مصطفى بازامة

ليبيا كلمة دلت في عصور ما قبل الميلاد وبعده على جزء من الشمال الافريقي اتسع حتى شمل ما بين النيل وشاطئ المحيط الأطلنطي تارة وانكمش حتى الاقتصار على جزء من الاقليم الذي يحمل الآن هذا الاسم تارة أخرى .

وقد قامت حول هذه التسمية نظريات عدة منها اللغوية والتاريخية والدينية ولا يزال العلم ينتظر كلمة الفصل في اثبات أصلها الذي تفرعت عنه واشتقت منه رغم أن الأستاذ صاحب ( المجمل في تاريخ لوبيه ) يؤكد في صراحة نسبتها إلى اليونانية معتمدا فيما يبدوا على ما ذكره العلامة المرحوم أحمد زكي باشا في كتابه ( قاموس الجغرافية القديمة ) حول هذا الاسم بالذات من أن النطق المستقيم للكلمة هو ” لوبيه ” لأن الحرف “Y” في اليونانية القديمة بمثابة الواو العربية وأن الذين ينطقونها ” ليبيا ” إنما يراعون النطق الفرنسي لها ليس إلا

ونجد من بين العلماء المختصين بأصول اللغات من ينسبها إلى السريانية أو إلى اليونانية أو إلى لغة القوم الوطنيين ومن المؤرخين من ينسبها إلى امرأة أو معبودة وطنية ولكل فئة رأيها وحجمها .

فالذين نسبوها إلى الفينيقية أو قالوا بأن ليبيا مشتقة من كلمة ” Lebia ” الدالة في اللغة الفينيقية وكذلك في العبرية على اللبؤة والمقصود بهذه التسمية في نظرهم الإشارة إلى أنها ” بلد الآساد ” ويبدو هذا التعليل غريبا إذا ما قورن بطبيعة الإقليم الليبي نفسه الذي تعيش السباع فيه ولكن إذا ما رجعنا إلى عالم الميثولوجيا نجد أن قورينة العذراء التي أغرم بها أبولون “Apollo” التي تصارع الوحوش وتفتك بالآساد

والذين قالوا بأنها عبرية الأصل يرونها كلمة مركبة من كلمتين هما ” ليب و يم ” ومعناها قبل وبحر والمقصود في نظرهم أنها تعني بلاد ما وراء البحر.

والذين أرجعوها إلى الإغريقية قالوا أنها مشتقة من كلمة” Libs “ الدالة في اللغة اليونانية القديمة على الريح الجنوبية التي تهب من جهة افريقيا ولا تزال كلمة ليبيتشو “ LIBECCO “ المشتقة عنها تدل في اللغة الإيطالية على ريح الجنوب أو الرياح الافريقية , ويرى هؤلاء أن المقصود بليبيا الإشارة إلى أنها بلد الجنوب .

أما أولئك الذين ردوها إلى لغة سكان البلاد نفسها فقد قالوا بأنها اشتقت من اسم قبيلة وطنية اسمها ” ليبو أو لوبا “.

وليبيا اسم اقليم عرفه الإغريق وسكنوه قرونا امتزجوا خلالها بأهله ومن اطلع على تاريخ الإغريق يلاحظ ولا شك مدى ما يخالطه من أساطير قلما تجد حادثة أو اسما ليست له أسطورة تصله بعهد الآلهة من قريب أو بعيد وهكذا خلقوا لليبيا أسطورتها وقالوا بأنها ابنة “اباقو” “Epafo” أو “Epaso” ازيس المصرية ملكة مصر وعروس بوسيدون “Poseidone” “نبتون” اختطفتها هيرا “Hera” ليلة زفافها وأخفتها بالصحراء غيرة منها .

وربما هذه الأسطورة ترجح الرواية التاريخية القائلة بأن ليبيا ابنة لأحد ملوك مصر ملكت البلاد نفسها فنسبت إليها وعرفت باسمها , وليست من هذه ببعيدة كذلك الرواية التي ذكرها هيرودوت من أن ليبيا اسم لامرأة وطنية سميت البلاد باسمها .

وهنالك نظرية أخرى تقول بأن ليبيا اسم معبودة وطنية قديمة عرفها الاغريق فنسبوا البلاد إليها ويذهب بعض هؤلاء إلى احتمال أن “تانيت” معبودة قرطاجنة هي نفس المعبودة القديمة التي عرفها الإغريق باسم ليبيا .

ويروي لنا بعض المؤرخين أن للمعبودة ليبيا مراسم وطقوسا دينية تشبه مراسم المعبود المصري ” امون الكبشي Gife Ammone ” ونجده في بعض مسكوكات قورينا فيما بين القرن الرابع والأول قبل الميلاد رسما لرأس ليبيا مع بعض المعبودات المصرية .

وليبيا كما يعرفها إغريق قورينا هي واهبة الجوائز والأكاليل ومتوجة الملوك لذلك نجد في لوح يعرف باسم دي كاربوس “Di Carbos” من آثار الإمبراطورية الرومية محفوظ بالمتحف البريطاني نقشا يمثل ليبيا وهي تضع الإكليل على رأس قورينة بينما هذه تفتك بأسد وذكر لنا بوزانيوس “Bausanius” – القرن الثاني الميلادي – أن من بين التماثيل التي أهديت لمعبد أبولون دلفو عند القرن الخامس قبل الميلاد تمثالا للمعبودة ليبيا وهي تتوج الملك باطو الأول “Batto” مؤسس الأسرة وأول ملك إغريقي بقورينة .

وقسم جغرافيوا الإغريق القدماء العالم القديم إلى ثلاث قارات آسيا أوربة وليبيا “افريقيا” ونشير من بين هؤلاء إلى بطليموس المؤرخ وإلى العلامة القوريني إيراتوستينس “Araiostones” أول من قاس محيط الكرة الأرضية ونجد ليبيا تحد في عهد الامبراطورية الرومية من الغرب بموأد الأخوين فيليني عند المكان الذي أقام فيه الإيطاليون قوسا اطلقوا عليه اسم “Arco dei Fileni” أما من الشرق فإلى الغرب من مدينة الاسكندرية

وقد كانت صحراء مصر الغربية والتي يسمونها بالصحراء الليبية تكون قسما من الأراضي الليبية ويسكنها أقوام من ليبيا إلى عهد الأسرة الثانية والعشرين الليبية حينما ضمها شيشنق “Sheshonok” إلى المملكة المصرية في عهد جلوسه على عرش الفراعنة ويبدو أنها في عهد الرومان رجعت إلى ليبيا مرة أخرى واستمرت حتى عصر الإسلام وإلى نزوح بني هلال وسليم تكون جزءا من الاقليم الليبي .

وكان الرومان يقسمون ليبيا إلى قسمين ليبيا العليا وتحد من شرقها بالعقبة “السلوم” وليبيا السفلى أو الجافة وهي ما وراء ذلك إلى الشرق .

هكذا نجد النظريات حول اسم ليبيا تختلف والآراء تتضارب ويناقض بعضها بعضا مما يدعونا إلى الخوض في مناقشتها لترجيح أحدها لمعرفة الأصل اللغوي الذي اشتقت منه كلمة ليبيا ولسنا نود بهذا إبداء القول الفصل المنتظر حولها فإن هذا لسنا من أهله .

نضمن هذا المقال سبع نظريات :

أربع منها لغوية

واثنتان تاريخيتان

وواحدة دينية

ونستبعد منها القول بأن هذا الاسم لابنة أحد ملوك مصر لما سبق أن أشرنا إليه من تشابه بين هذه والأسطورة من جهة ولأن التاريخ المصري لا يحدثنا عن امرأة ملكت ليبيا او استولت عليها سوى الملكة “حتشبسوت” من الأسرة الثامنة عشر ولم يسموها ليبيا ولو تكنية من جهة أخرى.

كما نستبعد رواية هيرودوت لافتقارها إلى إيضاح أو سند تاريخي يدعمها , فما من تعليل للسبب الذي حمل الناس على تسمية الاقليم باسم امرأة وطنية , ولا يكفي قوله بأنه الاعتقاد السائد بين أهل البلاد في زمنه فإن عقلية الشعوب إذ ذلك متأثرة جدا بالأساطير والخرافات , بل هذا يدعونا إلى احتمال كونها تمت إلى الأسطورة السابقة بصلة .

وكذلك لا نرى اشتقاقها من السريانية نظرا لأن الأمم التي تتخاطب بهذه اللغة لم تتصل بالليبيين اتصالا مباشرا يؤثر في اللغة إلى حد فرض الاسم عليها .

بقيت لدينا نظرية بأنها فينيقية أو عبرية الأصل اذا قصد بليبيا الاشارة إلى أنها بلد الآساد لأن هذا لا يتفق مع طبيعة الاقليم كما ذكنا اللهم إلا اذا اعتمدت على الأسطورة وهذه ترجع بأصلها إلى تساليا “Tessalia” من بلاد الإغريق أو باعتبار أن ليبيا اسم لقارة افريقيا – عدا مصر المعتبرة قديما آسيا – وفي هذا ضعف تاريخي فلم تطلق على القارة الا من الإغريق وفي زمن تلى ذكرها كاسم لذات الإقليم ولذلك فالنظرية في كلا الحالتين واهية .

أما اشتقاقها من كلمة ليبس “Libs” اليونانية فأمر محتمل جدا فهي بالنسبة إلى بلاد اليونان جنوبية وكثيرا ما نسبت البلاد إلى الجهات الأصلية فيها , فنحن نسمي ما يقع إلى الجنوب أرض القبلة وسكانها أهل القبلة وأهل طرابلس وما يقع إلى الغرب منها غرابة ونحن معهم في مصر مغاربة , وهؤلاء سكان آسيا جميعا يسمون بالشرقيين بل إن اسم آسيا نفسه تدور حوله نظرية ترى أنه كلمة تعني في إحدى اللغات الهندية الشرق , ولكن رغم ما في هذا الرأي من رجاحة فإنه لا يستند على غير اللفظ والتشابه ويفتقر إلى حجج تاريخية تدعمه .

لذلك .. لم يبق أمامنا إلا القول بأنها مشتقة من اللغة الوطنية وسواء كانت من اسم ليبو أو لوبا أو من المعبودة ليبيا الوطنية فإن الأدلة التاريخية لا تنقصها والعقل يرجحها فالليبيون كالمصريين تؤثر عليهم النزعة الدينية ولا غرابة مع هذا في أن تنسب البلاد إلى المعبودة التي يدين لها ساكنوها من جهة , ومن جهة أخرى كثيرا ما نسبت البلاد إلى أهلها وهذه جرمانيا أو ألمانيا وجزيرة العرب والسودان وإغريقيا وغيرها نسبت إلى ساكنيها الجرمان والعرب والسودانيون والإغريق ونحو ذلك .. فلم لا تنسب ليبيا إلى ليبو أو لوبا ؟

ونلاحظ في هذه النظريات مسألة قوة اتصال كلمة ليبيا باللغات السامية , ومرد ذلك إلى أن لغة البربر نفسها تدل على وجود صلة بينها وبين اللغات السامية وإن كانت كما تقول دائرة المعارف البريطانية مستقلة عنها , وليس في هذا ما يعارض قول العلامة المرحوم أحمد زكي باشا حول صحة نطقها لوبيا بدلا من ليبيا فقد وصلتنا عن طريق اللغة الإغريقية .

نقلا عن: مجلة:  History of Libya

ملاحظة المجلة : نشر هذا المقال للأستاذ محمد مصطفى بازامة سنة 1951.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى